للقاص أحمد الخميسى
شوقى بدر يوسف
القصة القصيرة فن ماكر ومراوغ وملتبس فى بعض الأحيان، لا يمكن الإمساك بقوامه، وهو عصى على التعريف لا يوجد له تعريف شافع جامع يحدد ملامحه ومعالم تشكله، وهو يستمد خاصية هذا المكر من ناحية التوجه والتعبير المقنع لقضايا وإشكاليات الواقع؛ مما يؤكد مكانته وتفرده بين بقية الإبداعات الأخرى. كما يستمد مراوغته من خلال بنية التشكل ومحاولات التجريب القائمة حول معماره والجانب الفنى فى تكوينه، وقراءة القصة القصيرة تعنى أن النص القصصى قد انتقل من مرحلة الكتابة إلى مرحلة أخرى تتسم بالنسبية؛ حيث المتلقى وذائقته الخاصة ومدى التواصل الحاصل بينه وبين النص، كما أن هناك ثمة حفريات جديدة يلوذ بها النص عند القارئ والمتلقى تختلف فى ممكنات تأويله والقطع بدلالته والتى تختلف من قارئ إلى آخر ومن ناقد إلى آخر؛ لهذا السبب تعد دراسة القصة القصيرة من أصعب الأمور لاعتبارات المعرفة والتواصل وآليات النسق الاستعارى القائمة فى ذهن وإدراك الناقد والمتلقى لمثل هذا النوع من الإبداع، حيث نسبية التلقى الحكائى الخاصة بالنص القصصى ومراوغته المستمرة دائمًا ما تكون عرضة للتأويل الذاتى؛ ما يدفع البعض إلى طرح دلالات تختلف باختلاف التلقى والذائقة وطبيعة الثقافة ونوعية القراءة، وهو فن الجماعة المهمشة المغمورة كما يشير بذلك فرانك أوكونور. (الصوت المنفرد، ت د.محمود الربيعى، الهيئة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1969 ص 17).
ولعل صدور مجموعة قصصية، وإضافتها إلى عالم مبدعها وكاتبها، وإلى المشهد العام للقصة يعد بمثابة إضافة أيقونة حكائية جديدة، تختلف باختلاف عالم الكاتب ودرجة وعيه وقراءته وثقافته الخاصة ومخزونه المعرفى والدلالى ودرجة تمرسه فى الكتابة السردية.
ولعل الطرح الجديد للقص الحديث باجتهاداته، وتجاربه، واستثماره لمراوغة فن القصة من خلال التواصل بهذه الآلية، والظواهر الإنسانية الكامنة فى أبعاد نصوصه، والمكر الكامن فى تشكله وبنية معماره الفنى يعطينا دلالة على أن القصة القصيرة الجديدة تدخل منعطفًا جديدًا يؤسس لحركة سردية لها خصائصها وسماتها الخاصة.
ومجموعة "رأس الديك الأحمر" التى صدرت للكاتب أحمد الخميسى والتى نحن بصددها فى هذه القراءة، لاشك أنها إضافة جديدة لإبداعات الكاتب فى مجال السرد القصصى، وإضافة جديدة أيضًا للمشهد القصصى المعاصر فى مصر، كما إنها تعتبر إضافة جديدة أيضًا للقارئ الذى يرسم لنفسه فرضية الكاتب فى شتى توجهه لكونه فاعلا ملموسًا لفعل التعاضد والتكامل بينه وبين الكاتب من خلال النص.
والإبداع القصصى للكاتب أحمد الخميسى، يمثل حالة خاصة من حالات وهج الكتابة القصصية؛ بسبب ارتباط الكاتب بالمشهد القصصى المصرى من ناحية التجربة؛ حيث تتكون تجربته من ثلاث مجموعات قصصية، هى مجموعة "قطعة ليل" 2004، و"كنارى" 2010، و"رأس الديك الأحمر" 2012، بخلاف مجموعة مشتركة صدرت عام 1967، وارتباطه أيضًا بمناطق إبداعية أخرى خاصة المشهد القصصى فى الأدب الروسى الذى ترجم عنه العديد من المجموعات القصصية، والكتب النقدية وغيرها من مجالات الإبداع الأخرى؛ وهو ما انعكس بصورة أو بأخرى على منجزه الإبداعى الخاص.
ولعل بواكير كتاباته القصصية، والتى بدأت بالمجموعة المشتركة التى صدرت عام 1967، واشترك فيها مع الكاتبين أحمد هاشم الشريف ومحمود يونس تحت عنوان "الأحلام، والطيور، والكرنفال"، والتى شارك فيها أحمد الخميسى بأربعة قصص هى: "رجل عجوز"، و"لمن نهشوا لحمى"، و"الأشياء العادية"، و"استرجاع الأحلام". وقد أهدى الكتاب الثلاثة آنئذ هذه المجموعة التى صدرت فى سلسلة كتابات جديدة عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، إلى الجيل الجديد من الكتَّاب بتصدير خاص قالوا فيه: "إلى الجيل الجديد الذى يحاول استكمال الحرية فى التعبير الفنى ملقيًا الضوء على واقع الإنسان الحديث، ومسئولياته، وآماله فى التقدم والسلام" (المجموعة ص3)، وهو ما ينسحب على جيل الكتاب الثلاثة وعلى أجيال المبدعين الذين قدموا لإبداعاتهم كل تعبير فنى متميز من الأجيال اللاحقة لصدور هذه المجموعة، وقد أشار يوسف إدريس إلى قصة (استرجاع الأحلام)؛ وهى القصة الأخيرة المنشورة فى هذه المجموعة المشتركة والتى سبق نشرها بمجلة الكاتب القاهرية فى عدد ديسمبر 1966 بمقدمة قصيرة يقول فيها: "القصة الجديدة التى نبشر بها، هى قصة خلفّت وراءها المعانى والأحاسيس والحكم المتعارف عليها، وتنقّب فى النفس البشرية، فى مناطقها القطبية والمواربة غير المكتشفة عن معانى ومفهومات ومضامين قد أحسها وتحسها معى، ولكننا لم نتفق بعد على أسمائها ومدلولاتها المحددة؛ ولهذا لا أجد أمامى إلا هذا المزيج المركب بعد حطام ما خلفه لنا القدماء من لغة وأسلوب وطرق، وحتى ما سرنا نحن فيه زمنًا، أجد من خلاله وبواسطته جنينًا فكريًا وشعوريًا، وإن كان كامل النمو والصحة إلا إنه بلا اسم ولا بصمات محددة". (مقدمة يوسف أدريس لقصة استرجاع الأحلام. م الكاتب، القاهرة، ع69،6 ديسمبر1966 ص 83)؛ كانت هذه رؤية يوسف إدريس حول قصة استرجاع الأحلام، وربما تنسحب هذه الرؤية نفسها أيضًا على عالم القصة فى ذلك الوقت.
وربما يجرنا هذا التأويل إلى أول استهلال قصصى كتبه أحمد الخميسى فى قصة "الشوق"، التى نشرت قبل ذلك فى الإصدار الأول لمجلة القصة الصادر فى إبريل 1965، حين قال فى هذا الاستهلال الذى ينسحب أيضًا على مضامين بعض النصوص فى تجربته القصصية التى جاءت بعد ذلك: "هل تعرفون الحزن؟ الحزن المرهق الذى ينوء به القلب.. هل تعلمون ما هو الألم الكظيم الذى يترك فى النفس بقعا كالمرض؟ هل كابدتم الشوق؟ شوق صبى صغير – لم يتعد التاسعة – لأبيه، لوجه أبيه، لكفه الثقيلة، لرائحة أنفاسه، للحديث معه، هل جربتم الشوق؟ هذا الشوق؟ (الشوق) قصة أحمد الخميسى، مجلة القصة، ع 16، إبريل 1965 ص 40)؛ هذا التساؤل الأليم، وهذا الطرح الأول، وهذه اللمحة الإنسانية المتصدرة لأول استهلال قصصى للكاتب؛ إنما تمثل بعدًا إنسانيًا يؤجج لطرح العديد من الفرضيات فى حكى وقص أحمد الخميسى بعد ذلك، ويؤسس لوقائع وبديهيات تتناثر فى قصصه القصيرة منذ مجموعته الأولى المشتركة وحتى مجموعته الأخيرة "رأس الديك الأحمر" التي نحن بصددها الآن، وقد انعكس الأدب القصصى الروسى الذى قام بترجمته أحمد الخميسى إلى العربية على عالمه القصصى كثيرًا، ومن أبرز من أثروا فى كتاباته كان تشيكوف كما صرح بذلك فى أكثر من حوار أجرى معه، وشولوخوف، وإيفان بونين وشوكشين وغيرهم؛ حيث عايش أحمد الخميسى أعمالهم القصصية ونقل إلى العربية الكثير منها بتميز واقتدار.
لعل هذه المقدمة التى أشرنا إليها فى قراءتنا المبتسرة لمجموعة "رأس الديك الأحمر" تأخذنا إلى بؤرة المجموعة، ومضامين نصوصها، وإلى المغامرة الإبداعية الكامنة فيها شكلا ومضمونًا، وإلى عنصر المراوغة الذى احتفى به الكاتب فى هذا الطرح المتميز من النصوص القصصية؛ من خلال اختياره لموضوعات ومضامين مختلفة لفلسفة حياتية وضع فيها رؤيته الاجتماعية والإنسانية والسياسية، وحقق من خلالها وجهة نظر لما يحدث على مستوى الشخصيات والأحداث.
وقد أهدى الكاتب مجموعته إلى بعض رموز القصة والترجمة المصرية ممن شاركوه عالمه ومسيرته الإبداعية والقصصية وهم: محمد المخزنجى، وعلاء الديب، وأبو بكر يوسف، وشوقى عقل. كما جاءت المقدمة التى كتبها الكاتب إبراهيم حمزة مؤصلة لأبعاد قرائية فى نصوص المجموعة، وهو ما لاحظناه فى العتبات الأولى للمجموعة.
والقارئ للمجموعة، يجد أن الكاتب يستهل قصصه من قلب الحدث مباشرة، وهى سمة تواجدت فى معظم قصص المجموعة، كما أنه يستمد رؤيته من خلال بعد واقعى رامز لأحداث واقعية، وشخصيات تتواجد فى المجتمع انتخبها بحسب الحدث المراد التعويل عليه، والإشكالية المراد إبراز حدودها، والشخصيات المحورية الكامنة داخل المجتمع سواء كانت مهمشة أو شخصيات لها أبعاد خاصة وأبعاد إنسانية مستمدة من الواقع، ومن يتأمل عناوين المجموعة؛ يتبين أن الكاتب انتهج مسلكًا واضح المعالم فى وسم نصوصه بحسب رؤيته فى مراوغة النص القصصى وباستعراض عناوين المجموعة؛ نجد أنها تتراوح بين المفردة والاثنان والثلاثة بحسب رسوخ تقليد الكاتب فى العنونة، والتى راوح فيها أيضًا عنصر المراوغة فى التعبير؛ فهى أحيانًا مفردات بسيطة معبرة مثل "قائمة النسيان"، و"جلباب أزرق"، و"الطابق السابع"، وأحيانًا تكون بساطتها وهمية مثل " ومض"، و"غمغمة"، و"صعيدى"، و"شباك"، و"رحمة"، وأحيانًا تكون قناعا من أقنعة الكتابة السردية مثل "تاريخ فقاعة"، و"آخر مرة"، و"أحب ساراماجو"، و"الحب والفولاذ".
ولعل عنصر المراوغة الذى تواجد فى نصوص قصص المجموعة، يكمن فى هذا التأثر الوافد من تأثر الكاتب بالأدب الروسى خاصة من إبداع تشيكوف فى القصة القصيرة عن الشخصية المزيفة التى يقول تشيكوف عنها: "نحن غير ملعونين ليس بسبب ذنوبنا الكبيرة التى قد نتفادى اقترافها، بل بسبب ذنوبنا الصغيرة التى يسهل أن نخفيها عن أنفسنا، وأن نقترفها مائة مرة فى اليوم حتى تستعبدنا كالكحول والمخدرات، وبسبب ذلك نخلق لأنفسنا شخصية مزيفة". (الصوت المنفرد.. مقالات فى القصة القصيرة، فرانك أوكونور، ت محمود الربيعى، المركز القومى للترجمة، القاهرة 2009 ص 38).
ففى قصة "رأس الديك الأحمر" التى حملت المجموعة عنوانها الرئيسى، وهى قصة رامزة تختزل الواقع الآنى فى مرحلة يمر بها الوطن فى سنواته الأخيرة، نشرت فى جريدة الدستور المصرية فى إبريل 2012 بحسب ما هو وارد فى نهاية النص، كما نشرت أيضًا فى نفس الفترة بمجلة طنجة الأدبية بالمغرب مع بعض تعديلات طفيفة فى نسيجها الفنى، ولعل هذه العبارة التى أوردها الكاتب قرب نهاية النص ليدلل بها على الحس الرمزى للمعادل الموضوعى لحدث النص والذى يقول فيه: "فجأة انفلت البدن. رفرف لأعلى. دار فى الهواء دورة عجيبة غير متوقعة. خفق جناحاه بين الأرض والسقف. اندفع إلى نافذة مفتوحة وانطلق منها إلى الحرية" ( قصة رأس الديك الأحمر ص23)، ربما هى مزيج من الواقعية السحرية، أو السيريالية المبطنة بالواقع المتخيّل؛ جاءت لترمز إلى واقع يعايشه الوطن الرامز إليه بهذا الديك المذبوح فى مرحلة مهمة من مراحل حياته، وهى مرحلة الثورة التى سرقت منه بعد الخامس والعشرين من يناير 2011، وهى ما رمز لها بقطع رقبة هذا الديك الأحمر، وانفصال الرأس عن الجسد، الذى استرد حياته ووعيه مرة أخرى بعد أن عبر نافذة الحرية كما تشير القصة. القصة مشبعة بروح التوتر، ومشحونة بالانفعال السريع، والإيهام بها يحيل إلى ترميز الواقع وتسييس المحتوى، وتضمين النص لرؤية اختزلها الكاتب فى العبارة الأخيرة التى ترك نهايتها مفتوحة للمتلقى يكملها كيف يشاء إذ يقول فيها: "تطلّع الرأس إلى النافذة بنظرة خابية. لقد نجا؟! كيف لم تخطر النافذة على بالى؟! ينطفئ لون العرف النارى على البلاط الأبيض. يحشد الرأس كل ما تبقى له من ومض. يتسمع جناحيه فى الهواء البعيد. إنه أنا من دونى! فكيف حدث ذلك؟" (المجموعة ص 23)؛ يبدو فى هذا النص عنصر المراوغة فى اختيار التقنية، وطريقة العرض، واستثمار الرمز فى تعميق الرؤية، وفرض حالة من التوتر والانتهاء من النص بنهاية مفتوحة؛ مما يعضد رؤية الكاتب ويترك المتلقى مع الإيهام والإيحاء واختيار الفرضية التى يراها مناسبة لاستكمال رؤيته الخاصة بالمضمون والمعادل الموضوعى الذى يراه مناسبًا للنص.
وفى قصة "جئت أنت"، وهذا المشهد الإنسانى للابن الذى يحكى لأمه المريضة والمقعدة واقعة مر عليها زمن بعيد ليسّرى عنها ويضحكها فى هذه الظروف الصحية الصعبة التى تمر بها؛ فيحكى لها حين قبض عليه، وتعلله بالمرض حتى يتم نقله إلى المستشفى وفى محبسه بالمستشفى، ولأن زيارته كانت ممنوعة فقد تعللت الأم عند زيارتها له بأنها قادمة لزيارة زميله فى الحجرة، وحين يفطن الشرطى المكلف بحراسته بأن المرأة جاءت لزيارة ابنها، يتدخل لطردها من الحجرة لاعتبارات أمنية، وتحاول الأم المريضة تذكر هذه الواقعة التى حدثت منذ زمن وهى تقول لابنها: "هل حدث هذا حقًا؟. قال: "نعم". قالت: "وأنا جئت إليك والزيارة ممنوعة؟". قال "نعم". أدارت رقبتها إلى الناحية الأخرى وسرحت ببصرها: "وتشاجرت مع الشاويش فعلا؟". ضحك: "نعم"! سألته قبل أن يأخذها النعاس تمامًا: "ألا تختلق هذه الحكايات لتضحكنى؟". قال: "لا، أنت جئت.. فعلا جئت". وتنتهى الحكاية بهذا المشهد الإنسانى البسيط فى مبناه والكبير فى معناه. وقد أدار الكاتب أبعاد النص بتلقائية وعفوية منحته بعدًا واقعيًا حدد منه رؤيته الإنسانية النابعة من وفاء الابن تجاه أمه المريضة فى لحظة من أجمل اللحظات الإنسانية.
وفى قصة "قائمة النسيان"، وهى قائمة حددها الكاتب من خلال عنصر مراوغة النص القصصى من مجموعة من الذكريات، يحاول بها صالح أن ينسى حبيبته نجلاء التي يتوهم أنها تبتعد عنه وتهجره؛ فيضع خطة علمية على حد قوله لنسيانها قبل أن تهجره هى حفظًا لكرامته وشخصيته، هو يتوعدها بأنه سوف يهجرها ويقاطعها إن هى لم تتصل به فى الحال، ويحاول هو وصديقه ناجى وضع هذه الخطة بأن يتذكر صالح الأمور التى كانت تحدث بينه وبين حبيبته بمساعدة صديقه، وعن طريق تذكره لهذه الأمور سوف ينساها، ويذكره صديقه ناجى العارف ببواطن الأمور بينه وبين حبيبته بأشياء كثيرة ليضعها فى القائمة. وفى النهاية عندما تتصل به نجلاء ينسى كل شيء، ويترك صديقه ويهرع إليها، بينما صديقه يهرول وراءه وهو يستند على حافة السلم ورأسه متدلى لأسفل وينادى: يا صالح أعود لبيتى أم أنتظرك؟ القصة يبدو فيها عنصر المراوغة؛ فى اختيار الحدث وطريقة ترتيبه عن طريق هذا الشباب الساذج الموتور، الذى يحاول أن يتلمس طريقه بفرضيات ذاتية غير مألوفة وغير مقنعة، تحكمه ضعف الشخصية، والتربية غير الصحيحة، وأصدقاء السوء.
وفى قصة "آخر مرة"، الدائرة أحداثها فى إحدى عربات (السرفيس)، يعرض الكاتب لنماذج محددة من نوعية ركاب هذه العربات، انتخبهم الكاتب من البشر الذين تمتلئ بهم هذه العربات بممارساتهم وطبيعتهم الخاصة: الصعيدى وركوبه بطريق الخطأ، الفتاة التى ترتدى ملابس محبوكة على جسدها، امرأتان تتشاجران للحصول على مقعد، رجل بلحية؛ شخصيات نمطية تتجمع بطريق الصدفة فى هذه المركبة، وما يحدث بينهم من ممارسات خاصة وصراعات وكأن هذه السيارة تعتبر نموذج وماكيت لما يحدث على المستوى العام، كل هذا وسائق السيارة يسير بها بسرعة كبيرة جراء استفزازه من قبل ركاب السيارة حتى كاد أن يصطدم بإحدى السيارات المسرعة. وفى نهاية المطاف ينصرف الجميع كل بهمومه وأوجاعه. القصة تحمل عنصر السخرية فى نسيجها وأحداثها وشخوصها، خاصة شخصية الصعيدى الذى رفض السائق أن ينزل من العربة دون أن يدفع أجرتها، ويقف فى نهاية القصة ليقول: "أروح شبرامنت بالعافية؟"، كما تقف هذه المرأة لتعبر الطريق وهى تشير لمرافقها: "معلهش ياخويا آخر مرة نيجى مصر". القصة تأخذ من الواقعية سماتها، ويحيل الكاتب النص القصصى إلى معادلة لبنية الواقع، ومراوغة للحدث فى صورة من صور الحياة الواقعية داخل عربة الأجرة الرامزة للمجتمع ككل.
وفى قصة "أحب ساراماجو"، وحدث الفبركة الذى يتم كثيرًا فى الصحافة، والشخصيات الزائفة فى مجتمعها الخاص من خلال فراش الجريدة (رمضان) الذى يصبح بقدرة قادر أديبًا كبيرًا؛ لمجرد أنه زرع فى مؤتمر أدبى بواسطة بعض الصحفيين الذين تكاسلوا عن حضور هذا المؤتمر فحضر بدلا منهم، وسرعان ما فرض نفسه على الساحة، وأصبح له حضور طاغ بسبب هذا الموقف، وانتقل للعمل بالصفحة الأدبية فى صحيفة أخرى؛ ما أكسبه مكان جديد ومكانة كان يصبوا إليها، القصة تعرى وتكشف ما يجرى فى الصحافة من خواء، وتكاسل، والبحث عن المال، والمصالح الشخصية على حساب المهنة، وما تفرضه من بحث عن المتاعب وظهور أنصاف الموهوبين فى الساحة الأدبية؛ والقصة تنزع إلى تعرية الواقع الصحفى، وتنتهى القصة بهذا المقطع الدال والذى تركه الكاتب فى نهايته المفتوحة؛ ليدلل عن رؤية الكاتب إزاء هذا الحدث: "بحلول صيف ذلك العام تركنا رمضان، التحق بإحدى الجرائد صحفيًا تحت التدريب، ولم نره زمنًا طويلا، إلى أن سمعت فى إحدى الجلسات أنه صار مسئولا عن ملحق أدبى فى صحيفة رائجة" (قصة أحب ساراماجو ص 76).
وقصة "شباك" أو الشباك، التى حاكتها المرأة جيدًا لتوقع فى حبائلها هذا الأديب الكبير صاحب الحظوة والجاه، ومحاولتها مقابلته بحجة وجود مشروع قومى للترجمة تريد مناقشته فيه، وحين تصل إلى أهدافها ويتم الزواج، تسير الحياة فى رتابتها المألوفة؛ هى قصة بسيطة استخدم لها الكاتب الفلاش باك لمراوغة الحدث وتشكيل دقائقه: "كان ذلك منذ سبعة أعوام حين تلقى مكالمة على المحمول من صوت أنثوى تماسك فيه دفء وتهذيب: صباح الخير يافندم، أنا هالة فخرى، أعتذر إن كنت أتصل بدون سابق معرفة، لدى مشروع قومى للترجمة كنت أود أن أناقشه معك". صادته شباك الصوت وتمنى ألا يخرج منها. قال يدارى انجذابه للصوت بنبرة محايدة "بالطبع هذه قضية مهمة". وتنتهى هذه القضية المهمة بالزواج، وتتخذ الحياة مجراها اليومى الاعتيادى. وفى مراوغة للنص ينهى الكاتب قصته بنهاية مفتوحة يترك فيها للقارئ حرية الحركة مع النص المراوغ بهذه العبارة الدالة: "يحاول أن يستغرق فى النوم. يتحسس الغطاء الذى غرزت أطرافه كالحدود بينهما وتحوم نظرته نصف نائمة حول الشباك" (قصة شباك ص 92).
وقصة "الحب والفولاذ"، وهى قصة رامزة يتمحور موضوعها حول القضية الفلسطينية؛ من خلال قصة حب نشأت بين مصرى وفلسطينية عن طريق الإنترنت، تحاول حبيبته نجلاء استدعاءه إلى رفح الفلسطينية عن طريق الأنفاق بمعرفة أحد أصدقاء والدها، وحين يوشك شوقى على الوصول إلى فتحة النفق من الجهة الفلسطينية؛ تنقض طائرة إسرائيلية لتهدم هذا الحلم وتموت الفتاة نجلاء فى هذا الحادث، ويتغلب الفولاذ على العاطفة، القصة لها بعد إنسانى يجسده الراوى الفلسطينى غسان حينما حدثت المأساة التى جسدها الكاتب فى مشهد مراوغ للحدث، ولكنه يعطى دلالة على عمق الرؤية: "فى تلك اللحظة تناهى إلى سمعى أزيز الفولاذ فى السماء. فى أقل من ثانية صار الأزيز هديرًا قويًا. شلنى الصوت المقترب. تحجرت فى مكانى بعيدًا قليلا عن فتحة النفق. تطايرت الصور والأصوات من حولى كالشظايا بسرعة جنونية. قرقعة شريط الدعامات الخشبية فى النفق وهى تنهار. يدا شوقى تقبضان على الهواء وهو ينظر للأعلى بذهول. ريم تصيح. اندفاعى لأشدها وأرفعها. الجدران تتهاوى علينا. الوجه القمحى يشهق ويغص طلبًا للهواء. العارضة الحديدية تسقط من السقف على ساقى. الدم يتفجر من وجه ريم وفمها. عيناى تغلقان على يديها تمسكان باستماتة بكتفى شوقى". (قصة الحب والفولاذ ص 85)
وفى قصة "جلباب أزرق"، يبدو الحدث المكثف والظاهر من عقلية وتفكير هذا القروى الساذج "خليفة"، الذى اقترض جلبابًا أزرق من "جودة" أحد جيرانه ليستر به أخاه سعد المريض الذاهب إلى مصر للعلاج بعد فشل علاجه بالوحدة الصحية، يصر جودة على أن يأخذ خليفة الجلباب الأزرق الخاص به، ويموت سعد فى المستشفى ويتركه أخوه ويعود إلى بلدته لإنجاز بعض الأشياء المرتبطة بالجنازة، وفى القطار يتسلل هاربًا من كمسرى القطار لعدم وجود نقود معه، وكل همه كيف يعيد الجلباب إلى جارهم جودة، ويستعد خليفة للعودة إلى مصر لإنهاء إجراءات الدفن ويرافقه جودة إلى موقف السيارات، وفى المستشفى بصم خليفة على طلب دفن أخيه على نفقة الحكومة، ويسأل خليفة التمرجى والموظف المسئول حتى يصل إلى مدير المستشفى عن جلباب جودة الأزرق، الذى كان يرتديه أخوه سعد ولكن دون جدوى، وحين سُدَّت أمامه السبل فى عودة الجلباب الأزرق، قال خليفة لنفسه فى غضب: "يعنى جودة هيعمل فيك إيه؟ ملعون أبوه على جلابيته فى ساعة واحدة". (ص100)
وفى قصة "تاريخ فقاعة"، وهى القصة الثانية التى أورد الكاتب تاريخ نشرها فى المجموعة بجريدة العربى الناصرى فى أكتوبر 2010؛ لارتباطها بدلالة سياسية تطرح نفسها، وهو ما أراده الكاتب فى قصدية تذييل ثلاث قصص بمكان وتاريخ نشرها؛ قاصدًا بذلك أن يبرز من تاريخ النشر المدلول الخاص برؤيته حيال نشر هذا النص فى هذا الوقت بالذات.
وهى قصة تشير إلى محاولة أنسنة فقاعة فى معدة السيد الرئيس، وملاحظة أحد حراسه بما يحدث داخل جسد السيد الرئيس حين لاحظ امتقاع وجهه وهذا العرق الغزير يغمره، وهو ما سوف ينعكس على حالته أثناء ذهابه إلى مجلس الشعب لإلقاء خطابه التاريخى، والدور الرئيسى التى لعبته هذه الفقاعة فى مسيرة القائد حتى خروجها إلى الفضاء الخارجى مع كلمات خطابه فى صورة مغايرة لما يحدث على مستوى الواقع: "لم يبق من بدن الفقاعة بعد الخطاب التاريخى سوى عينين زائغتين فى وجه منهك فارقته علامات الحياة. مع ذلك، فإن الفقاعة التى بددت نفسها تحت أضواء المجد لم تستشعر الأسف على عمرها الذى أضاعته فى لحظة. لقد انتهت بخروجها، هذا صحيح، ولكن من فى تاريخ الفقاعات نال ذلك المجد كله؟" (تاريخ فقاعة ص113).
لا شك أن مراوغة النص عند قراءته والوقوف منه على محتوى ما يقدمه من رؤى وفرضيات، من خلال فعل الرؤية التى وظفها الكاتب فى رسم شخصياته المنتخبة من الواقع ووضعها بطبيعة كل منها فى مكانها المناسب داخل النص، لتحكى وتسرد وتفعل ما يجعل النص القصصى يجسد ويعبر عن إشكالياته ويبث رؤيته التى عوّل عليها الكاتب فى رصده لظواهر اجتماعية وإنسانية محددة، كما كان استخدام الكاتب أيضًا لحساسية فنية بالغة الخصوصية نبعت من مسئولية اجتماعية، وأخرى سياسية بدت من محاولته فرض وجهات نظر ذاتية داخل نصوصه القصصية، ففى القصص الثلاث التى ذيلها بتاريخ نشرها خلافًا لبقية القصص الأخرى، والتى لاشك لذلك دلالته الخاصة؛ فتذييل تاريخ نشر النص له تأويل خاص مكمل لهذه النصوص الثلاثة، لاعتبارات سياسية رآها الكاتب تعوّل على طرح تكملة رؤيته النصية؛ ففى قصص "رأس الديك الأحمر"، و"الحب والفولاذ"، و"تاريخ فقاعة"؛ نجد هذا الديك الذى ذبح بضربة سكين واحدة، وهذا الهاجس الغرائبى فى النجاة من هذه الأزمة التى وجد نفسه فيها فجأة على يد غاشمة باترة، ومأساة ريم التى كانت تنتظر حبيبها القادم من الأنفاق، والفقاعة التى انتهت من معدة الرئيس بعد أزمة خانقة انتابته عند إلقائه خطبته بمجلس الشعب، ولا شك أن شخصية الراوى عم غسان فى قصة "الحب والفولاذ" وتجربة البحث عن الحب بين كل من ريم وشوقى التى انتهت بمأساة ريم، والحارس الذى تم التحقيق معه فى نهاية قصة "تاريخ فقاعة" جراء إصابة الرئيس بفقاعة فى معدته: "شعرت بتوتر والضابط يسألنى عما جرى بالتفصيل فى ذلك اليوم. حكيت له ما كان ظاهرًا ومرئيًا للجميع، لكنى أخفيت فى أبعد نقطة من أعماقى ما أبصرته وحدى، لأننى أعلم منذ طفولتى أن الناس لا يصدقون الحقيقة" (تاريخ فقاعة ص113)، والديك الأحمر القانى الذى قبض عليه بقوة بقبضتين قويتين فى قصة "رأس الديك الأحمر"، والأم التى نسيت ما حدث فى الزمن البعيد فى قصة "جئت أنت".
"لا شك أن اللغة الأدبية لا تستعير مكونات الواقع الخارجى؛ إنها تعبّر عن وعى ومعان ومدلولات ونظم فكرية شاملة، وتقوم بتخليق عوالم جديدة من تعالق الدالات اللغوية بعضها ببعض، ويقوم القارئ أو الناقد بكشف تلك العوالم الجديدة حال الانتهاء من قراءة النص". (المتخيل السردى.. مقاربات نقدية فى التناص والرؤى والدلالة، د.عبد الله إبراهيم، المركز الثقافى العربى، بيروت، 1990 ص8) والقارئ للغة المجموعة، يجد أن الكاتب قد اختار لغة ليس بها من التكلف شيئًا، لغة بسيطة موحية ومعبرة عن روح النص تبدو فى بعض الأحيان مشاغبة من السهل الممتنع، عارية من الزوائد تفى بالوصف الدقيق والسرد المكثف للوقائع والشخوص، لغة تجترح بلاغتها لتعبر وتجسد ما يريد الكاتب أن يجسده ويعبّر عنه فى نسيج النص القصصى؛ وهو ما عبَّر عنه الكاتب لغويًا وفنيًا فى مجموعته القصصية "رأس الديك الأحمر".