استمع جيداً لمن حولك واحترس من هؤلاء الذين يكثرون من استخدام المعانى الكلية فى أحاديثهم أو كتاباتهم، على مثال (أصل الشعب عاوز كذا وكذا) أو (الناس فرحانة قوى بالقانون الجديد).. الشعب.. الجماهير.. الغرب.. الإمبريالية.. كل الكلمات من هذا النوع ليس لها وجود محدد على وجه الأرض. والمدهش أن استخدام المعنى الكلى مفضل عند أصحاب النوايا الطيبة وأيضا أصحاب النوايا السيئة. ولذلك سيظل شباب الثورة يعذب نفسه فى انتظار ما طالب به من قبل وهو العيش والحرية والكرامة الإنسانية. كلها معان كلية تقودك عندما تمشى وراءها إلى لا شىء. فالمعنى الكلى أشبه بالصندوق المغلق عليك أن تفتحه لتعرف ما بداخله على وجه التحديد، ومن ثم تبدأ فى التعامل مع الحياة بموجب ما وجدته من جزيئات أى بمعان محددة. ربما فى هذه الحالة تكتشف أن كل هذه المعانى الكلية التى ثرت من أجل تحقيقها، ليست إلا شيئا واحدا يسمى «الحرية الاقتصادية أو الاقتصاد الحر».
بافتراض النوايا الحسنة، هناك قدر عال من الرومانسية والمثالية وراء استخدام المعنى الكلى، ولعلنا نجد عند أفلاطون مثالا واضحا لذلك، لقد انشغل الرجل بالبحث عن نظام للحكم تتحقق فيه العدالة والخير لكل البشر، فشبّه الجمهورية بجسم الإنسان، الرأس هو مقر الحكم والحكام، الصدر هو مكان القوى الغضبية من جيش وشرطة، أما الجزء الأسفل فهو ما يناظر القوى الشهوية من بقية طبقات المجتمع. ربما توافقه على ذلك، ولكنه عند الحديث عن العقل الذى يمثله الحكام قال إن رئاسة الجمهورية ستوكل إلى الفلاسفة ولكى نضمن موضوعيتهم وعدم انشغالهم بشؤون الزوجة والأولاد والأسرة، فسيكون عندهم مجمّع زوجات بعددهم، هكذا يكون الأطفال هم أبناء كل هؤلاء الحكام، والزوجات هن أمهات كل هؤلاء الأطفال. هذا هو ما فكر فيه العم أفلاطون مستخدما أعلى درجات البلاهة الفلسفية التى تثبت انعدام خبرته بعلاقة الرجل بالمرأة وعاطفة الأبوة. غير أن أرسطو نسف كل هذه النظرية بجملة واحدة «عندما تكون ابنا لعدد من الآباء فلا أب لك، وعندما تكون كل الناس أعمامك فلا عم لك».. عندما يملك الشعب كل وسائل الإنتاج فهو لا يمتلك شيئا. وبشكل عام، عندما تفكر فى امتلاك كل شىء، فسينتهى بك الأمر حتما إلى الإفلاس التام. هذا هو بالضبط مصير كل الأنظمة الثورية التى تصر على ثوريتها على مر السنين. ستحفر أنفاقا سرية تحت الأرض بينها وبين كل البلدان المجاورة لكى يستخدمها رسل الثورة- أو حرسها الثورى ــ كبداية لتحويل العالم كله ليس إلى حلفاء بل إلى تابعين. وفى نهاية الأمر ستكتشف ما اكتشفته كل الثورات وهو أنها فقدت الاهتمام بشعبها وأضاعت ثروته فى مغامراتها وجاء الوقت الذى تدفع فيه الثمن. ثمن رغبتها البلهاء فى الاستيلاء على كل شىء.
المعانى الكلية، وأبرزها ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، فكرة تفسد نفوس الناس وتملؤهم بالشر على المدى البعيد. هى كذبة مبنية على أكاذيب، والأكاذيب كأى سلعة أخرى لها فترة صلاحية بعدها يكف البشر عن استخدامها أو هضمها.
نقلا عن المصري اليوم