أستأذن فى الإفلات من قبضة الهم العام الذى ما عاد ترفاً.. إلى حضن الهم الخاص لأبكى على صدره، أستأذن فى العزف قليلاً على أوتار قلبى وأكتب - بطعم البوح - عن أدب الافتقاد، فأنا أفتقد وليفتى وأحن إلى أيامها بما فيها من ليالى الخصام، أشتاق حتى للخلاف، إنه وجع البعاد ونزيف الجرح الغائر والرماد الذى لم تنطفئ شعلته.
أحدثكم عن امرأة فى حياتى بل هى «المرأة» فى عمرى، أحدثكم عن آمال العمدة، الساكنة دروب الروح، الحاضرة مهما طال الغياب، فى مارس كان ميلادها يوم عيد الأم، وفى مارس 2001 كان رحيلها من دنيانا، ومن يومها لا دخلتُ غرفتها ولا جرؤت أسمع شريطاً من ثروتها الإذاعية، حيث كانت تعطر بفكرها هواء الإرسال، أحدثكم عن امرأة كانت «شفرة» النجاح إذا كان لى موقع فى شارع النجاح، فقد استوعبت بنت العمدة كما كان يناديها أسطى الصحافة المصرية موسى صبرى «جنون البحث عن كينونتى» وغفرت نزوات «التزود بالوقود» وصفحت عن مروق لسانى، وحين صارت مذيعة تخاطب الناس عبر ميكروفون، كانت تغار علىَّ ممن أطلقت عليهن «المنبهرات»، ولم تكن مطلقاً تغار منى.. مثل عشرات الحالات قوضت «الغيرة المهنية» حياتهم، كانت تنصهر كشمعة ليظل طريقنا مضيئاً لولا المرض الذى أطفأ قنديلها.
لحظة الرحيل، كانت زلزالاً ضربنى فى مقتل، ولعل أخطر مخلفاته هو الوحدة، وحدة رجل فارقته امرأته هى الفراغ المفزع بعينه، يأتى الليل ليكثف غيابها.. حضورها، أكاد أسمع صوتها وأعرف علمياً أنه «هذيان أصوات»، أسمع خطواتها الواثقة من نفسها، أسمع غضبها ثم عودتها من ساحة الغضب إلى العتاب الحنون، الضجة التى كانت تخلفها بوجودها صارت وحدة باردة لولا ابنتنا «حنان» التى رطبت أيامى. يوم رحيلها تجمدت الدموع، أتذكر جيداً، فلست بمصدق، قبلها بليلة كنت أجلس معها فى المستشفى نتكلم معاً عن حلم رحلة نسافر معاً إلى فينسيا، وكنت متحمساً لجعل الحلم حقيقة، كنت أود أن أفعل المستحيل كى تحيا، أشعلت كل الشموع فى كنائس فى مصر وأمريكا طوال رحلة العلاج، أصلى من أجلها وتشاركنى الدموع، هل كانت دموعى مقدمات للرحيل، لست أدرى، لكنى كنت أتفاءل حين تفتح عينيها لتقول شيئاً، كنت أتعلق بقشة، وحين كانت على «جهاز التنفس الصناعى» التفتت إلىَّ فجأة وقالت جملة واحدة سليمة الحروف بلا وهن، قالت: «حنان ملهاش غيرك»، لكن عبارتها كانت تشى بالرحيل، تجهمت قليلاً عرفتها بالمستشفى، وعدت متأخراً ولم أنم، لحظات أجترها ربما لأتحرر من عذابها المكتوم، ذلك أنها صباح اليوم التالى قدر لها أن تنتهى رحلة آلامها. يوم رحيل آمال نكست زهور حديقتنا الصغيرة أوراقها الخضراء، وبمرور الأيام اصفر لونها.
أحياناً، ساعة العصارى - يدخل عطر آمال المفضل من باب البيت، فألثم الهواء وكأنى أحتضنها، الفرق بين الإعجاب اللحظى والحب، كالفرق بين الاهتمام الخاطف والحب بنفس طويل، وآمال كانت اهتماماً وحباً بنفس طويل طويل، إنها من زمان آخر، جاءت من الصعيد وواجهت القاهرة بنفس قيم الصعايدة الجدية والكرامة والكبرياء والعناد، وقد كانت مرونتى معها مفتّتاً ومفككاً لعنادها، حتى إن صديقتنا كاتبة الدراما القذيفة «كوثر هيكل» هى التى أطلقت عليها «آمال العندة»!
هذا زمان مختلف تماماً، زمان المرأة «ثلاثية الأبعاد»، الزوج «المموِّل» والصديق الذى يداوى الكسور، والمساعد الذى يسند فى المحن أو يولد طاقة إيجابية. الحب فى زماننا صار رنة موبايل ومقابلة «تيك آواى» وارتباطاً مبكراً يفرح الأهل ويعقبه طلاق مبكر يحزن الأهل.
أنا أحتفظ بالموبايل الذى كانت آمال تستخدمه، فبصمات أصابعها عليه وضغطة أطرافها فوق أرقامه، أحتفظ بنظاراتها الشمس والأخرى للنظر التى كانت تقرأ بها بعض مقالاتى وتفتش بين السطور عن حنين يداعبنى!
هل يصل آمال العمدة، صهيل الحزن؟ هل فى قاموسها أدب الافتقاد؟ إننى أفتقد عنف مشاجرتها ونيران غيرتها، هذه التى تحملت ليالى غيابى عن البيت لدواعى السفر فى فترة بحثى عن ذاتى، لكننا عندما كنا نختلف، كان الخلاف يأخذ «يدوبك يومين» ثم نعود داخل خميلة الصلح، لأن «مهمة أكبر» منا تشدنا إلى مسؤولية عمر «حنان» الذى تحتاج فيه حنان الأم وحسم الأب، وعندما أنظر لحنان اليوم أتذكر آمال وهى تحدثها من…. لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر الموقع الرسمي أدناه
نقلا عن المصري اليوم