بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-(530)
سوف يذكر التاريخ أن حبرية قداسة البابا تواضروس الثاني شهدت واحدة من ألمع فترات الكنيسة الوطنية الصادقة الأمينة,حيث سطرت الكنيسة علي لسان البابا مواقف عظيمة ترسخ انتماءها وارتباطها بالوطن وسط ظروف بالغة الدقة,ثم ها هي تعود لتشهد شهادة الحق والصدق عندما اقتضت الضرورة ذلك.
أتحدث اليوم عن قضية دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان والتي اشتعلت أولا منذ نحو عام مضي ثم عادت لتشتعل منذ شهرين,وهي قضية أرقت الكثيرين بسبب البعد القبطي والدرامي الذي اكتست به…فمن منا يسمع عن عزم السلطات الرسمية في الدولة شق طريق رئيسي يخترق ديرا قبطيا ولا يثور احتجاجا علي ذلك؟…ومن منا ينمو إلي علمه اعتراض رهبان ذلك الدير علي الهجمة التي يتعرض لها ديرهم ولايهب ليؤازرهم؟…وأخيرا من منا يصل إلي سمعه صراخ رهبان الدير وإعلانهم عن عزمهم الاستلقاء علي الأرض أمام معدات رصف الطريق والاستشهاد في سبيل حماية مقدساتهم المسيحية ولا يغلي الدم في عروقه غضبا وقهرا وينطلق منددا بالسلطات الرسمية ولاعنا مشروعها لشق طريق يخترق الدير؟
هذا ما حدث عندما أثيرت مشكلة دير وادي الريان مرتان متتاليتان…ولأننا فيوطني نحمل مسئولية تحقيق وتدقيق كل ما ننشر ذهبنا في حينه لتقصي الحقيقة علي أرض الواقع,وهناك تبين لنا أن الحقيقة ليست بالقسوة التي تصور بها للرأي العام ولا تستوجب إلهاب المشاعر القبطية غضبا واحتجاجا,فقد فؤجئنا بأن الدير المذكور آمن في حددوه ولاتوجد نية مطلقا للسلطات الرسمية لشق طريق يخترقه أو يعتدي علي مقدساته,بل لمسنا لدي المسئولين الحرص علي عدم المساس بالدير أو ممتلكاته أو رهبانه وأن الأمر لايعدو أن يكون نزاعا علي الأراضي الواقعة في مسار مشروع الطريق الجديد بين الرهبان وبين عرب القبائل التي تقطن المكان والتي ترعي وتعيش علي السياحة الوافدة إلي محمية وادي الريان المتاخمة للدير.
أوضحنا ذلك في حينه,كما حرصنا علي طمأنة القراء إلي أن الدير آمن وأن المسئولين عن مشروع الطريق-تقديرا منهم للكنيسة ولقداسة البابا-أكدوا أنهم لن يقدموا علي أية خطوة قبل الرجوع للكنيسة والحصول علي موافقتها علي المشروع بما يؤكد سلامة الدير ورهبانه وحماية منشآته الأثرية….لكن للأسف لم تهدأ الأمور وكان واضحا أن هناك من يعمل علي تأجيج النزاع بين الدير ومشروع الطريق سواء من جانب بعض منابر الإعلام أو من جانب بعض رهبان الدير أنفسهم…وكان قد أعلن في وقت سابق أن قداسة البابا شكل لجنة لبحث المشكلة,فآثرنا من جانبنا التريث والانتظار حتي تنهي اللجنة عملها وتصدر تقريرها في هذا الشأن…وتضاربت التكهنات بين من يتصور أن الكنيسة ستنحاز لجانب رهبان الدير وبين من يتوقع أن تقول الكنيسة قولة حق تضع الأمر برمته في نصابه الصحيح,وكنت أنا بما أعرفه من الحقيقة علي أرض الواقع أترقب بشغف ذلك التقرير.
وجاءت ساعة الحسم عندما أعلن المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بتاريخ الأربعاء قبل الماضي 11مارس التصريح التالي بخصوص مشكلة دير وادي الريان:
اجتمع قداسة البابا تواضروس الثاني مع اللجنة البابوية المسئولة عن مشكلة دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان:الأنبا أبرآم والأنبا أرميا(واعتذر الأنبا مكاريوس لدواعي السفر بالخارج) وبحضور الأنبا رافائيل أسقف عام كنائس وسط القاهرة وسكرتير المجمع المقدس,وأبونا أنجيلوس إسحق سكرتير قداسة البابا والقس بولس حليم المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية,وذلك لبحث الوضع في التجمع الرهباني بوادي الريان…حيث أصدروا البيان التالي:
وادي الريان منطقة محمية طبيعية سكنها قديما عدد من النساك والمتوحدين,وحديثا حاول البعض إحياء الحياة الرهبانية فيها علي أرض لم يتملكوها قانونا ولم يصدر بها اعتراف كنسي حتي الآن.وعندما قررت الدولة إنشاء طريق ضمن خطة مشروعات التنمية القومية في مصر,اعترض بعض الساكنين هناك بصورة غير لائقة أمام المهندسين ومعداتهم,ولم يكن ذلك يمثل موقف الكنيسة الرسمي…ولأهمية الموضوع شكلت الكنيسة القبطية لجنة من ثلاثة أساقفة لمتابعة الأمر منذ ستة أشهر كما استبعدت الراهب المسئول هناك وتبرأت من اثنين من الساكنين الذين انتحلوا صفةراهب كما بذلت اللجنة محاولات عديدة لإثنائهم عن هذا العناد ولكن دون جدوي.
لذا تعلن الكنيسة أن هذا المكان ليس ديرا كنسيا معترفا به حتي الآن,كما تخلي مسئوليتها وتعلم أن للدولة الحق القانوني في التصرف في هذا الموضوع مع مراعاة الحفاظ علي الطبيعة الأثرية للمكان وما به من المقدسات والمغائر والحياة البرية في المنطقة. وإذ تدين الكنيسة بشدة كل تلك التجاوزات ترجو شعبها عدم التجاوب مع المغالطات التي يتداولها البعض بصورة خاطئة وبمعلومات غير صحيحة أو التعاطف مع الأشخاص المحتجين دون التأكد من الكنيسة رسميا لمعرفة الحقائق الدقيقة والأمينة أمام الله.كما تستنكر الكنيسة التصرفات التي صدرت من البعض بغير حق والتي لاتمثل نهجا رهبانيا وهو النهج الذي يقوم أساسا علي الطاعة والفقر الاختياري…
وانتهي البيان بتبرؤ الكنيسة من ستة من الضالعين في الشغب المرتبط بقضية هذا الدير والطريق المزمع تنفيذه….وهكذا حسمت الكنيسة الأمر وسطرت -كما أسلفت في مقدمة هذا المقال-نموذجا جديدا يضاف إلي سلسلة مواقفها الوطنية الصادقة الأمينة.