كمال زاخر
بغير مقدمات معلنة تصدرت أخبار منطقة دير وادى الريان عناوين المواقع الإخبارية، وهى منطقة صحراوية تتبع محافظة الفيوم، كانت واحدة من أشهر التجمعات الرهبانية المصرية فى القرن الرابع الميلادى، وظلت عامرة حتى القرن العاشر أو بعده بقليل، وبفعل التقلبات التاريخية انزوى بعيداً ويهجره رهبانه، حتى عام 1960 حين قصدها الأب متى المسكين ونفر قليل من تلاميذه، أعاد إعمار بعض كهوفها، حتى عام 1969 حين تصالح مع البابا الراحل الأنبا كيرلس السادس، فشد الرحال إلى دير الأنبا مقار بوادى النطرون، باتفاق ثلاثى مع الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير، وتتكرر الحكاية مجدداً مع تغير الأبطال، ويشهد وادى الريان قدوم أحد تلاميذ الأب متى ليعاود تعمير وادى الريان، ويقبل بين جنباته طالبى الرهبنة بشروط أيسر، وبفعل تشابكات مختلفة وتطلعات أطراف كنسية وحسابات تحكمهم يحتل المكان مقدمة قائمة من الأزمات، تتفجر حين تشرع الحكومة فى شق طريق دولى ضمن خطة جسورة لتفعيل مسار الاقتصاد وعمادها الطرق التى تنعكس على حركة التجارة والصناعة من الخامات إلى المنتجات تامة الصنع.
يمر الطريق بوادى الريان، ويتطلب التعامل مع منطقة جبلية بالوادى، تحتوى على منطقة أثرية بامتداد عشرة كيلومترات وبعمق أكثر من ثلاثة عشر كيلومتراً، بحسب تقرير حديث انتهت منه وزارة الآثار، ويتطلب التعامل معها بحرص باعتبارها ثروة قومية، وفى سياق هذا برزت أطروحات بديلة موفرة فى التكلفة ولمسافة أقصر، وتوفر حماية للثروة الأثرية.
وكان من المفروض أن تتوافق كل الأطراف وصولاً لحلول موضوعية، لكن طبيعة المرحلة المرتبكة تنعكس على حالتنا هذه، يرفض الرهبان الطريق، بينما توافق عليه الكنيسة، وترى الكنيسة فى هذا عصياناً يكسر القاعدة الرهبانية المستقرة «الطاعة» ويسعى طرف ثالث ليضم الدير إلى ولايته المكانية، ويرفع أطراف أخرى تقارير غير دقيقة لقداسة البابا ويوغروا صدره ضد الدير، ويخفى طرف من خارج الكنيسة تقرير الآثار، ونكتشف أن أزمة الدير هى الجزء الظاهر من لغم قيد الانفجار، يطال كل الأطراف، الدير والكنيسة، والإدارة المحلية، ووزارة الآثار.
بل يكشف عن اختلالات جمة فى منظومة الرهبنة، اضطراب ضوابط القبول وغياب التلمذة التى بدونها لا تكون رهبنة، وطبيعة العلاقة بين الدير والكنيسة، وتدخلات بعض الكيانات فى سياق الأحداث، فى غير إدراك أن الكنيسة والدير يشبهان التوأم الملتصق، حيث لا حياة لأحدهما فى غياب الآخر، ومحاولات فهم نذور الرهبنة بمفاهيم ليست لها، وإسقاط هذا على مواقفها من كليهما (الكنيسة والدير)، فإذا بهم يسكبون الزيت على النار ويحشون الجرح بالملح، ليكشفوا من جانب آخر أنهم منتج تعليم كنسى متراجع منبت الصلة بتعاليم الآباء التى تقوم عليها منظومة التعليم الكنسى، الذى تمت إزاحته لعقود، فصرنا ننحاز للشكل بينما الجوهر لا علاقة له به، ربما تكون أزمة وادى الريان كاشفة لواقع كنسى ملتبس يستوجب مراجعة منظومات التعليم والرهبنة والإدارة، لتسترد الكنيسة عمقها الآبائى الذى لا يعرف الازدواجية بين الإكليروس والمدنيين، ويعيش بالتكامل وينبذ الطبقية، ويعمق مفهوم تدبير الخلاص ولاهوت التجسد الذى يرتفع بالإنسان، ويترجم مفردات يومه إلى حياة مسيحية معيشة، ويسترد منظومة قيم المحبة والعطاء والبذل، والإيثار، ويخرج بها إلى الفضاء العام فيسهم فى تحقيق العدل والسلام والاندماج، ويصير الأرض سماء بفعل يتجاوز الشعارات، ويبنى علاقات مجتمعية سوية.
وعلى الكنيسة أن تنتبه إلى من يسعون لتسوية حسابات معلقة، أو تعويق مسارها الإصلاحى التصحيحى، وقد حرك مصالح استقرت لهم، وهو انتباه يتطلب تبنى مسارات الشفافية والمصارحة والمكاشفة، وطولة البال.
نقلا عن الوطن