(من أجل فهم أفضل لقصد الصوم الكبير)
القمص أثناسيوس فهمى جورج
في رحلة الصوم الكبير ندخل إلى السر العجيب الذﻱ يقف أمامه السمائيون والأرضيون في دهشة... سر أسبوع الآلام الفصحية والقيامة؛ عندما تُستعلن ذراع الرب الطوباوية الممدودة على عود الصليب؛ والتي بسطها ليحتضن كنيسته؛ وليجمعها ويوحِّدها ويضمها في عش أبيه "مَن صدّق خبرنا ولمَن استُعلنت ذراع الرب" (إش ٥٣ : ١). حيث يُستعلن خلاص الرب في كنيسته التي هي نحن؛ ويعطينا ذراعه ويقودنا على جبل التجربة وسط برية هذا العالم؛ فاتحًا يديه كي يُشبعنا بكلمته الحية التي تخرج من فمه؛ والتي تُستعلن وتنفتح أمامنا كسرّ حياة وعودة إلى الفردوس المفقود بإحسان أبدﻱ.
هناك ربح عظيم كثير كائن في الصوم؛ لذلك نعتبر زمن الصوم ربيعًا روحيًا يسلمنا فيه المسيح طريق النصرة على الشيطان؛ ويعلمنا الصوم والجهاد والظفر على المجرِّب، لأن هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصوم والصلاة (متى ١٧ : ٢١)؛ بحيث نستبدل الجوع بالشبع ونقابل عِشقًا بعشق؛ في امتياز بلا قياس؛ يشبه الوميض الخافت أمام ضوء الشمس الساطع؛ أو القطرة الصغيرة إلى الخضم الواسع... جميعنا نمشي في موكب الصوم الكنسي الجماعي خلف مسيحنا الصائم (الرأس)، نسلك كما سلك ذاك؛ ونقتدﻱ بفعل صومه؛ كي يجذبنا وراءه فنجرﻱ في طريق مطروق؛ هو بدأه بالتدبير؛ علَّمه وسلمه لنا ليبارك مسيرة جهادنا الروحي؛ حتى يبلغنا النصرة ومحطة الوصول إلى الميناء الأبدﻱ.
لقد طُردنا من الفردوس لأننا لم نصُم؛ لذلك نصوم حتى نعود إليه.
ففي صوم الكنيسة اجتياز لجبل التجربة مع آدم الثاني رئيس الإيمان ومكمِّله... نصارع الأفاعي (الشرور والخطايا والدنايا والآثام...) حتى نشتاق كالإيل إلى ينبوع الماء الحي؛ ينبوع الحكمة الحقة؛ والحُلة الأولى؛ ولباس العُرس؛ والمائدة الملوكية، فننال استحقاق الكنز السمائي (أحد الكنوز)، ونعمة النصرة (أحد التجربة)، وفرحة الرجوع والوليمة (أحد الابن الضال)، وماء الحياة (أحد السامرية)، وأدوية البراءة والشفاء (أحد المخلع)، ونعمة الاستنارة (أحد المولود أعمى)، مصدقين الخبر الإلهي بإستعلان ذراع الرب وإلتماس وجهه وملكوت برّه؛ في مقادس بيت العلي وخيمته العجيبة مع الكنيسة الواحدة المجتمعة الصائمة.
لا شيء يحطّ من قدر الإنسان ويُفقده كرامته وبهاءه سوى عبودية الشهوة؛ والانقياد لناموس الخطية... فمنذ أن سقط آدم الأول في العصيان؛ تلوثت الطبيعة؛ وصار عدو الخير يجُول ليأسر النفوس... لذلك يصير صومنا إعلانًا لرفض مشورته الشريرة ومعقولاته الفاسدة؛ وللأسباب التي تسوقنا إلى الخطية (مناظرها وملامسها ومجسّاتها)، فحرية إرادتنا هي التي تميِّزنا وتفرقنا عن الحيوانات الأعاجم... حتى لا ينطبق علينا الكلمات "تأكلون وليس إلى الشبع؛ تشربون ولا ترتوون؛ تكتسون ولا تدفئون؛ والآخذ أجرة يأخذ الكيس منقوبًا" (حجي ١ : ٦)، وحتى لا يكون مصيرنا "كثور يذهب إلى الذبح؛ أو كالغبي إلى يد القصاص" (أم ٧ : ٢٢). لهذا نضع سِكِّينًا على حنجرتنا بالصوم؛ حتى نبتعد عن الشراهة والتُخمة والطمع؛ لأن حياتنا هي ليست من طعامنا ولا من مالنا؛ بل هي نسمة من عند القدير.
فإن كنا نطلب الخبز ليعيش جسدنا؛ لكن الرب يريد أن يُشبعنا كي تحيا نفوسنا؛ بعد أن صنع التدبير لأجلنا وصيَّرنا أبناء وورثة له؛ وربّانا ونشّأنا لا بالمثال لكن بروحه المُحيي... أفبعد كل هذا نجازيه بدل الخير شرًا ونعصاه؟! صائرين أقل من الحيوانات التي تعرف صاحبها وقانيها؟!
فلننتبه لان صوم الأطعمة لن ينفعنا شيئًا؛ ولن يجعلنا نتقدم خطوة واحدة مع الله؛ إلا إذا اقترن بصوم الحواس وبروح التوبة عن الخطية وبالمواظبة على الصلاة... لن ننتفع بصومنا إلا إذا اقترن بقانون المحبة والغفران؛ لأنه ليس مجرد استبدال لأنواع من الأطعمة؛ لكنه استبدال وتغيير للذهن والسلوك... إذ لا يمكننا أن نبحث لنقتني الله غير المنظور بلغة المنظورات؛ بينما كنزنا فينا وداخلنا كثمرة للحياة حسب نذر المعمودية ومقتضياتها؛ التي تجعل من غير المنظور منظورًا؛ بالعشرة والمعرفة العملية للصالح وللرؤوف وللرحيم الذﻱ ذكرنا برحمته إلى أبد الإباد.
لن يكون لصومنا بهاء؛ إلا إذا إمتنعنا عن الشرور (ونحن أيضًا فلنصُم عن كل شر بطهارة وبر) لأنه كيف لنا أن نمتنع عن أكل اللحم لنعود للحياة الفردوسية؛ بينما نحن ننهش لحوم بعضنا بعضًا؛ بالنميمة والدينونة والإفتراءات والتحامل والكراهية... كذلك كيف نصوم بينما نحن نأكل حقوق الآخرين؟! كيف نصوم عن الماء؛ بينما نسكر باللذات والملذات والشهوات والذاتية؟! لن ننتفع من الربيع الروحي الكنسي ما دمنا لا نحيا بكل كلمة تخرج من فم الله... وما دمنا نسجد لآلهة العالم ونعيش من أجل ممالك هذا الزمان. لن ننتفع من الصوم إذا كان لنا قهرًا وكبتًا أو إلتفافًا بإختيار المشتهيات البديلة.
لن ننتفع إذا صمنا بالجسد من دون صوم الروح ومن دون عزل شر أفعالنا أمام عيني الله... لن نجني ثمار الصوم إذا امتنع جسدنا عن غذائه المعتاد؛ بينما أرواحنا شاردة طائشة منقسمة بالرذائل والتجاديف، وما دامت حواسنا منحلّة فيما هو مُحرّم وغير لائق. ما المنفعة إذا كنا مُتخمين من طعام الخنزير؛ فيما نفوسنا خائرة وأرواحنا ميتة؟! إن خبز الصوم ينبغي أن يكون معتوقًا من خمير الشهوات؛ ليجلب لنا الصحة الروحية؛ ويجعلنا نشهد بالغلبة على حُجج العدو؛ فننجو من الارتداد والهلاك مقتنين أنفسنا.
عالمين أن اللحم الأرضي (الحيواني) لن يهبنا القوة والجمال؛ لكن نعمة الله المقوية يمنحها لنا الكلمة؛ عندما نصوم بكل كياننا الخفي والظاهر؛ فنجد نعمة ورحمة ودالة... نعيش فعل الصوم في الجسد والنفس؛ بالعمل مع الفكر؛ لأن الأطايب والترف والتُخمة؛ تُلهينا عن معرفة وضعنا وحقيقة ضعفنا؛ لنتقدم إلى مسيحنا الذﻱ صام عنا ولأجلنا كمذنبين؛ نسترضيه بإيماننا؛ وكعبيد بطّالين نقول له (أخطأتُ أخطأتُ يا ربي يسوع اغفر لي؛ لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران)؛ وهو برحمته يعلن لنا أننا أحباء عنده؛ ويعطينا توبة قبل أن يسدّ الموت فمنا في أبواب الجحيم؛ ويستمع إلينا عندما نناديه قائلين له (أنا أعرف أنك رحيم ولا تشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا)، لأنه حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه.
له البر؛ وأما نحن فلنا خزي الوجوه؛ مستوجبين الصوم عن خبز الخفية؛ وعن كل المحرمات المأكولة في الظلام؛ والتي نظنها شهية للنظر وجيدة للأكل وبهجة للعيون... نضبط شهواتنا حتى لا ننخدع؛ وحتى لا تكون أجسادنا مَبيعة تحت الخطية الكائنة في أعضائنا... نسلك حسب الروح؛ روح الحياة التي تغيّر طبيعتنا؛ لا شكلنا فقط؛ لأن طرق العالم شكلية؛ لكن الصوم والفضيلة هي ليست شكلاً؛ لكنها كيان حقيقي له جماله؛ وتقدمة مُماتة كل النهار محسوبة للذبح.
حينما نسلك بجدّية؛ نصوم صومًا مقبولاً ونطرح عنا الثقل ونصير كالسحاب المرتفع إلى فوق وكالحمام الذﻱ يطير؛ لأن التثقُّل بالإثم يجعل الرأس مريضًا والقلب سقيمًا؛ ليس فيه صحة؛ بل جرح وإحباط؛ يجعل النفس خاوية وخربة؛ لكن علامة الصوم تصير بالكف عن فعل الشر؛ وبتعلم فعل الخير. نطلب الحق / ننصف المظلوم / نقضي لليتيم / نحامي عن الأرملة؛ فنتغير من خزف إلى ذهب؛ ونسلم إلى الله مفاتيح قلوبنا؛ عندئذ نسمع القول المُفرح "قولوا للصِّدِّيق خيرًا" (إش ٣ : ١٠)؛ لأن كل من يتعدى على وصايا الله لا يفلح؛ وكل من يترك الرب يتركه.
لذلك في زمن ربيع الصوم؛ نتهجَّأ كل يوم رحلة صعودنا ونمونا الروحي مع موكب الصوّامين؛ لنضم صومنا المشترك مع كل الكنيسة عبر الأجيال؛ ونسلك كما سلك ذاك الذﻱ صام عنا كالتدبير... نصوم معه لأنه هو الوثيقة والأساس لجميعنا؛ فيتحقق إيماننا بالعمل وطاعة الوصية؛ عالمين أن طعامنا ليس فقط لبطوننا؛ بل في عمل مشيئة مسيحنا؛ وطعامنا الروحي الحقيقي يغذينا بنباتات وثمار الفردوس؛ فنسمن بالمعرفة والتمجيد والخيرات غير المادية؛ التي نرجع بها إلى حالة سكنىَ الفردوس حالتنا الأولى السليمة.
صومنا سيصير ملحوظًا ومنظورًا عند الله (صومًا كاملاً)؛ عندما نصوم عن الإتساخ بالذنوب والشرور؛ ذلك الصوم الذﻱ اختاره الله في حل قيود الشر؛ وفك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحرارًا؛ وقطع كل نير... الصوم الذﻱ هو كسر الخبز للجائع وقبول المساكين والتائهين في بيوتنا؛ وكساء العرايا وخدمة المحتاجين؛ وعدم التغاضي عن لحمنا... فالآخرون هم لحمنا... وبالجملة يصير صومنا مقبولاً فقط بفعل المحبة الأخوية وبعمل الخير مع العريان والجوعان والمظلوم والمسجون والمسحوق... وكما أن صومنا هو محبة؛ هو أيضًا فعل تجلٍّ؛ بحيث يُنبت فينا الصحة سريعًا (إش ٥٨ : ٨)؛ فتنشط عظامنا كجنة رَيّا؛ وكنبع مياة لا تنقطع مياهه...
إنها صحة النفس السوية؛ وعظمة الإيمان كما اختبرها قديسو الكنيسة "وأما أنت فمتى صمت فإدهن رأسك واغسل وجهك" (متى ٦ : ١٧)؛ وكأن الصوم هو واسطة وأداة رفع تعين الجسد ليتجلى بالإمتناع عن الشر؛ والعودة للأصل الفردوسي ببريق وجمال الروح، فقوة دفع الصوم تقود أجسادنا لترتقي إلى فوق... حيث ندعو فيُجيب؛ نستغيث فيقول لنا ها أنذا، ومجد الرب يجمعنا ويُشبعنا في الجدوب؛ ويجعلنا بنّائين في مساكن العليّ؛ ومرمِّمين كل الثغرات؛ وارثين لميراث قدس المسرة؛ مع كل المتمسكين بالصوم والصلاة بأياديهم؛ وكأنها سيوف وأسلحة؛ يُرضون الرب بأعمالهم الصالحة.
إنها حالة عيشة النفس في طقس طبعها الأول في الفردوس قبل السقوط؛ تلك التي تعترﻱ الصائم بشعور روحي لذيذ؛ يجد به نفسه يرتفع في جو العبادة؛ ونشاط الروح الذﻱ لا يتغير؛ بصحبة مسيح الكنيسة الصائم؛ الذﻱ يعطي نفسه ماءًا حيًا؛ ويقدم خبز خلوده المُشبع؛ ويعزﻱ النفس بمعرفة الحق الثمين؛ فتنقطع عن اللوسيفرية التي هي اندفاعات الشر وجنون الشهوة والسقوط؛ وتبتعد عن لسعات الأفاعي والحيات المُهلكة؛ ذلك أن الصائم يطّلع على قيمة حياته الحقيقية ومشروع خلاصه الذﻱ لا يُقاس؛ حتى ولو ربح العالم كله.
كذلك يقف الصائم على حقيقة وجوده الزمني الحاضر؛ بطعامه وتعظم معيشته وكنوزه؛ وكيف أنها ستصدأ جميعها وتفنى؛ وأن صعودنا على الجبل هو لنصرتنا في التجربة؛ ولتجلّينا وشركتنا في الجلجثة؛ ولبلوغ القيامة التي بها نطلب ما هو فوق؛ حيث المسيح الممجد جالسًا... نتجه من الأرضي إلى المطلق الأبدﻱ اللانهائي العجيب الذﻱ يُشبع عمرنا بالخير؛ لا بالأطعمة ويجدد شبابنا الروحي مثل النسر؛ فنجدد قوة؛ ونرفع أجنحة النسور؛ نركض ولا نتعب، وهذه هي بذور الأبدية والفردوسية المغروسة فينا؛ والتي جعلها الله في قلوبنا؛ كي ندرك تدبير خلاصه الذﻱ عمله لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا.