بقلم منير بشاى – لوس أنجلوس
كلما حل على الاقباط عيد الميلاد أو القيامة يعود للاذهان القرار الذى اتخذه المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث بمنعهم عن زيارة القدس. وزيارة القدستقليد قديم تعودوا القيام به منذ دخلت المسيحية أرض مصر، وتوقف بعد استيلاء اسرائيل على القدس فى يونيو 67، وجاءت امكانية عودة الزيارة بعد توقيع معاهدة كامب دافيد سنة 1978 مع الاتفاق على التطبيع بين البلدين. ولكن تم رفض العودة للزيارة بقرار من قداسة البابا شنودة.
بداية أؤكد اننى أفهم جيدا الخلفية التاريخية التى دعت قداسة البابا شنودة لاتخاذ القرار فى ذلك الوقت. وأعترف ان القرار ينم عن حنكة سياسية وبعد نظر من جانب قداستة جنبت الأقباط الكثير من المشاكل. وحتى نفهم الأمر بطريقة موضوعية علينا ان نسترجع بعض تفاصيل تلك الفترة من تاريخ مصر.
يسرد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل خلفية القرار فى كتابه خريف الغضب فى صفحة ٤٥٣، ٤٥٤. وبإختصار، كانت مصر قد وقعت معاهدة كامب دافيد مع إسرائيل والتى بمقتضاها إسترجعت الأراضى المصرية التى كانت إسرائيل قد إحتلتها. وكانت نصوص الإتفاقية تنص أيضا على تطبيع كامل للعلاقات بين مصر وإسرائيل بما فى ذلك تبادل الزيارات والسياحة. كانت هذه الإتفاقية تدعو إلى نقلة كبيرة فى العلاقات بين الشعب
المصرى وإسرائيل لم يكن الشعب المصرى مهيأ لها نفسيا بعد كل الحروب بين البلدين والشحن الإعلامى المكثف للشعب المصرى ضد اسرائيل لمدى عقود.
وكان الرئيس السادات تحت ضغط متواصل من الإسرائيليين لتنفيذ نصوص الإتفاقية من ناحيته. وكان يحس أنه فى موقف حرج لأنه كان قد وعد الإسرائيليين بتطبيع كامل وفوجئ أن جماهير الشعب المصرى والعربى لم تكن متقبلة لهذه الخطوة، وكان يحس أنه غير قادر على تنفيذ وعوده.
وهنا طرأت على السادات فكرة إعتقد أنها المخرج له من هذه الورطة. فقد تذكر أنه قبل سنة ١٩٦٧عندما كان الطريق من مصر إلى الأماكن المقدسة مفتوحا أنه كان يذهب ما بين أربعين و خمسين ألف قبطى من مصر لزيارة القدس سنويا. وكان السادات يعتقد أن الحل هو عودة هؤلاء الأقباط إلى زيارة القدس. وهذا العمل كان سيؤدى فى اعتقاده إلى مجئ السياح الإسرائيليين إلى مصر وبالتالى يكون قد تمم بنود الإتفاقية بخصوص عملية التطبيع.
ولكن المفاجأة الكبرى للسادات أن قداسة البابا شنودة رفض هذه الفكرة وكان رده على رسالة السادات حازما وقاطعا وهو "أرجوكم إبلاغ الرئيس السادات أننى لا أرى الوقت مناسبا لتنفيذ إقتراحه" وأضاف البابا شارحا أسباب رفضه "إن المشاكل التى تفصل مصر الآن عن بقية العالم العربى سوف تحل فى ذات يوم، وأنا لا أريد أن يكون أقباط مصر هم خونة الأمة العربية حينما تعود المياه إلى مجاريها بين شعوب هذه الأمة وبالتالى فأنا لا أرى الوقت مناسبا الآن لاستئناف سفر الأقباط إلى القدس. ويضيف هيكل عن رد فعل قرار البابا على السادات بالقول: "وإستشاط السادات غضبا. كان إلحاح الإسرائيليين يزداد عليه كل يوم، وبدا أمامهم عاجزا عن تنفيذ ما وعده، وكانت خشيته أن تبدو سلطته أمامهم وكأنها غير نافذة".
لا خلاف على ان رد قداسة البابا على الرئيس السادات وقراره بمنع زيارة الأقباط كان ضروريا فى ظل الظروف السياسية السائدة فى ذلك الوقت. ولكن الأمر يختلف بعد مرور حوالى اربعة عقود من اتخاذ القرار، وبعد تغيير الكثير من المعطيات التى أملته ومنها:
1- الحظر على زيارة الأقباط للقدس لم يكن له تأثير ايجابى على القضية الفلسطينية، كما ان الغاء الحظر سوف لا يكون له تأثير سلبى على القضية. التأثير كان مجرد شكلى رمزى.
2- العقاب الذى فرض على من خالف القرار لم يكن منطقيا. فالقرار كان سياسيا لمساندة الفلسطينيين فى نضالهم فى القضية الفلسطينية، بينما كان العقاب دينيا وهو القطع من الكنيسة والحرمان من ممارسة الطقوس الدينية مثل التناول. والمعروف ان هذا عقاب من ارتد عن الايمان المسيحى وانكر أساسياته.
3- .العقاب لم يساعد على اصلاح المخطىء بل تسبب فى ايذائه واقصائه. والمعروف أن فلسفة العقوبات هى تقويم المخطىء وتشجيعه على العودة مرة اخرى الى صوابه. ولكن العلاج المقترح بقطع المخطىء وحرمانه من الاسرار هو كمن يعاقب المريض بحرمانه من تناول الدواء.
4- ثم ان هذا الحظر الموضوع والعقاب الصارم لم يمنع من أراد ان يزور الأراضى المقدسة من ان يعمل ذلك ويتحمل المخاطرة.
5- صحيح ان المسيحية ليس بها فريضة الحج للقدس أو أى مكان آخر. ولكن زيارة الأماكن التى مشى عليها السيد المسيح هى اختبار جميل لا يمكن تعويضه تضيف لقرائتنا لهذه النصوص فى الكتاب المقدس أبعادا جديدة وتصيرها حية فى أذهاننا.
لقد حرم الأقباط من زيارة الأماكن المقدسة رسميا الآن ما يقرب من نصف قرن وليس هناك ما يوحى ان الوضع السياسى فى المنطقة سيتغير قريبا.
فهل من العدل حرمان أجيال بكاملها تولد وتموت دون ان يروا الأماكن التى عاش فيها السيد المسيح؟
ولعل صميم المشكلة يكمن فى تسييس وضع كان يجب ان يبعد تماما عن السياسة فزيارة القدس اختبار دينى بحت وليس معناه بيع القضية الفلسطسينية أو تأييد اسرائيل. بل ان الرئيس الفلسطينى عباس ابو مازن انفسه أصدر نداء يطالب فيه العرب بزيارة القدس. مؤكدا ان لجنة علماء المسلمين اقرت الزيارة كنوع من المساندة الاقتصادية للشعب الفلسطينى . واذا كان شرط قداسة المتنيح الانبا شنودة اننا لن ندخل القدس الا ومعنا اخوتنا المسلمين، فان اخوتنا قادة العالم الاسلامى قد سبقونا وذهبوا الى القدس بدوننا .
نعم قد يكون هناك بعض الحرج أن يقوم المجمع المقدس الأن بالغاء قرار تم ترويجه على انه برهان وطنية الاقباط. ويزعجنى ان يوضع الاقباط فى موقف من يتحتم عليه دائما ان يثبت وطنيته والا اعتبر خائنا. ولذلك أترك الأمر لحكمة قداسة الانبا تواضروس لإتخاذ ما يراه مناسبا، فليس معقولا ان يستمر هذا القرار الى الأبد. واذا كان من الصعوبة الغاء القرار دفعة واحدة فيمكن التعامل معه على مراحل تكون المرحلة الأولى اعتبار قرار وقف الزيارة انه الموقف الرسمى للكنيسة ولأنه غير عقيدى فهو يمثل توصيات غير ملزمة، ولا ترتبط باى عقوبات او حرومات كنسية. فلا أتصور ان يعاقب من يزور قبر السيد المسيح بمثل عقوبة من ينكر الايمان.
Mounir.bishay@sbcglobal.net