أول ما يلفت الانتباه عند قراءة كف الوطن من خلال صفحة الحوادث هو افتقاد الناس الحاد للحوار والتواصل، هناك زهق شديد وقرف مزمن، وأعصاب عارية مكشوفة فوق الجلد، وتحفز دائم، وعصبية تبلغ درجة الهستيريا مع أدنى انفعال، وبالبلدى الصريح «تلكيكة» للخناق والشجار والوصول بهذه المعركة إلى أقصاها حتى ولو كان القتل، وحتى لو كان هذا القتل لأعز الناس، الأب والأم والأشقاء، فرابطة الدم لا تكبح جماح هذه الهستيريا، ولا أوامر الدين وتقاليد المجتمع تستطيع السيطرة على هذه التلاكيك، فالمجتمع يعانى من أنيميا حادة فى التواصل وجوع وفقر شديدين فى التحاور، ولذلك تزيد قوقعة الذات صلابة وسمكاً، ويبنى كل منا جداراً من الجرانيت حول نفسه مبطناً من جميع الجهات بمرايا لا نرى فيها إلا ذواتنا المتضخمة، لا نرى البثور فى وجوهنا والتقيحات فى أرواحنا لأننا أدمنّا الزيف والضحك على النفس، يعانى كل منا من الوحدة حتى ولو كان فى مظاهره والعزلة حتى ولو فى أحضان الحبيب، اللغة مبتورة واللسان أخرس والأعصاب مشدودة والغربة هى المصير المحتوم، مجتمعنا أصبح لا يتواصل بل يتناحر، وفقد قدرته على الحوار ففقد معه الدفء فافترسه البرد القارس والليل الموحش، وهكذا اختفى قاموس التفاهم و«ادفع بالتى هى أحسن والعفو عند المقدرة وما يصحش وعيب ده أد ابوك وأختشى والدم ما يبقاش ميه وعمر الضفر ما يطلع من اللحم»... إلى آخر هذه العبارات التى تم صكها وصياغتها فى زمن غير الزمن، وما زال جبل الجليد طافياً لا يظهر منه إلا قمته الباردة الهادئة، أما القاع ففيه كل الثقل وكل الكوارث وكل المصائب.
للكاتب نجيب محفوظ قصة قصيرة بعنوان «الجريمة»، فى نهايتها يدور حوار عبقرى بين بطل القصة وأحد ضباط الشرطة يسأله فيه الضابط باستخفاف قائلاً:
«- ما واجبنا فى رأيك؟
- واجبكم أن تحققوا العدالة.
- لا، بل واجبنا هو حفظ الأمن
- وهل يُحفظ الأمن بإهدار العدالة؟
- وربما بإهدار جميع القيم!
- تفكيرك هو اللعنة.
-هل تخيلت ما يمكن أن يقع لو حققنا العدالة؟
- سيقع عاجلاً أو آجلاً.
- فكّر طويلاً، بلا مثالية كاذبة، قبل أن تكتب تقريرك، ماذا ستكتب؟
- سأكتب أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب!!».
انتهى الحوار بهذه الجملة التى تحمل بصمة نجيب محفوظ التى تنفذ إلى أعماق الأعماق، والتى تلخص لنا فى نفس الوقت الصراع الأبدى بين العدالة والأمن، ويطرح السؤال الصعب والمحرج وهو: هل لا بد بالضرورة من أن يترجم الأمن مفهوم العدل وأن يكون تطبيقاً أميناً له؟ وأعتقد أن الإجابة فى أحيان كثيرة هى لا، ليس بالضرورة أن يكون الحفاظ على الأمن تطبيقاً للعدل، فأحياناً يكون الحفاظ على الأمن هو مجرد حفاظ على استقرار زائف يغلى تحت سطحه ظلم فادح، وأحياناً أخرى يصبح الأمن تنفيذاً حرفياً أعمى لنصوص قانونية باردة أو مجرد ترجمة حرفية لها بدون النظر لروح هذا القانون وهدفه، وهنا يتفوق الروتين والبنود والحيثيات وينتصر الأمن الذى لا بد أن يلى ويتبع العدل لا العكس، فالمفروض أن يأتى العدل أولاً ثم يستتب الأمن.
نقلا عن الوطن