أعلنت مصر أنها سوف تكون جزءا من التحالف العربى، الذى سيتدخل عسكريا فى اليمن، لإنقاذ البلد الشقيق من ناحية، والعمل على عودة القيادة الشرعية للبلاد إلى مكانها الشرعى بعد الانقلاب عليها من قبل جماعة الحوثيين، وقوات تابعة للديكتاتور السابق على عبدالله صالح، من ناحية أخرى. وجاء فى الإعلان المصرى أن الدولة سوف تدخل الحرب فى اليمن جويا وبحريا.. وبريا إذا اقتضى الأمر؛ باختصار وضعت مصر وعدها بأن تقوم بالمشاركة فى حماية أمن الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربى حسب «مسافة السكة»، أى بالقدر من الزمن اللازم لنقل قدرات عسكرية مصرية إلى ساحة المعركة.
الأمر هكذا يدخل مصر والمصريين ما بين نوعين من المشاعر والهواجس والأفكار: الأول يعود بنا إلى حرب اليمن فى الستينيات، والتى لا يزال الفكر المصرى إزاءها منقسما رغم مرور السنين والعقود. فهناك من يعتبر تلك الحرب نوعا من النزيف العسكري - فيتنام مصر- التى جعلت الدولة المصرية غير جاهزة للتعامل مع حرب يونيو ١٩٦٧ التى مازالت مصر تدفع ثمنها حتى الآن. ولكن هناك على الجانب الآخر من يعتبرها جزءا من عملية تحرير العالم العربى ليس فقط من الاستعمار وإنما من التخلف وحكم العصور الوسطى. ومن الناحية الاستراتيجية البحتة فإن تحرير اليمن من حكم «الإمامة» لم يدخلها العصر الحديث فقط، لكنه أعطى مصر حليفا استراتيجيا فعالا فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ عندما تعاونت اليمن مع البحرية المصرية فى إغلاق مضيق باب المندب، ومن ثم أعطى لمصر ميزة استراتيجية مهمة ليس فقط بالنسبة لحرب وإنما أيضا فى المفاوضات التى تلتها. والنوع الثانى من الأفكار يدور حول العلاقة الخاصة التى تربط مصر بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية، وكلاهما وقف وقفة شجاعة فى دعم مصر وحربها ضد الإرهاب وفى الساحة الإقليمية والدولية منذ ثورة٣٠ يونيو ٢٠١٣، وحتى مؤتمر شرم الشيخ الأخير. وببساطة قالت مصر إنها سوف تقف إلى جانب من وقف معها، وها هى توفى بوعدها، إلى جانب أشقاء أصبح أمنهم القومى موضع تهديد خطير نتيجة الهجمة الكبرى التى تقوم بها إيران فى العراق لكى تجعل الإمبراطورية الفارسية ممتدة حتى بغداد مستغلة فى ذلك الحرب ضد داعش؛ وها هى الآن بعد أن وسعت نفوذها فى سوريا ولبنان تأتى إلى جنوب الجزيرة العربية فى صورة الحوثيين فى اليمن لكى تكتمل دائرة التواجد الاستراتيجى الإيرانى من كل الاتجاهات. مثل ذلك لا يمكن القبول به، ولا التسامح معه من قبل المملكة العربية السعودية ودول الإمارات والكويت والبحرين وقطر؛ ومن ثم منطقيا مع مصر.
ولكن بعيدا عن هذه وتلك من التقييمات فإن قرارات الحرب وكذلك السلام، ليست بتلك التى تفضى بنفسها للهواجس التاريخية، ولا للمشاعر العاطفية، وهى من الخطورة بحيث لا يمكن الولوج بشأنها دون اعتبارات خطيرة تخص الأمن القومى للدولة. ولذا فإن مصر لم تتدخل لمجرد الشعور بالدين أو لأنها ملتزمة إزاء أشقاء، على أهمية كل ذلك، ولكن دوافعها كلها لها علاقة مباشرة بمصر ذاتها. وأول الدوافع أن مصر تخوض هذه الحرب بالفعل فى مسرحها الخاص سواء كان فى سيناء والوادى داخل مصر، أو منذ وقت قصير داخل ليبيا. وفى هذا الإطار فإن الحرب فى اليمن ما هى إلا انتقال إلى مسرح عمليات آخر فى ذات الحرب. فعلى مدى الربع قرن الماضى باتت اليمن عشا لزنابير الإرهاب بأنواعه المختلفة، وطبعاته المتنوعة، سواء كانت القاعدة، أو داعش، أو فى الطبعة اليزيدية الشيعية المسماة بالحوثيين. هناك ذهب وتدرب الإرهابيون المصريون، كما كانت اليمن محطة للتموين والإمداد للإرهابيين فى مصر. وثانى الدوافع أن إضافة هذه الخلطة الإرهابية إلى التعصب والتطرف الحوثى، فإننا نصبح أمام مزيج متفجر من عدم الاستقرار والعنف، خاصة إذا ما كان مستندا إلى دولة إقليمية (إيران) تسعى إلى السيطرة والهيمنة. هذه الدولة لم تخف رغبتها فى الوصول إلى البحر الأحمر، ومن ثم تهديد قناة السويس، عندما بثت الألغام فيه إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وثالث الدوافع أن اليمن ليست منفصلة عن المسرح الاستراتيجى الأوسع بالمعنى المذهبى الذى يحاول خلق فتنة بين السنة والشيعة تكفى لصراع يقسم ويفتت المنطقة لسنوات قادمة؛ وبالمعنى الجغرافى الذى يمتد حتى القرن الأفريقى ومضيق باب المندب، حيث توجد قواعد الإرهاب والقرصنة فى الصومال، وربما لم تكن هناك صدفة أن السعى المصرى للتهدئة والتسوية مع إثيوبيا فيما يخص مياه النيل كان جزءا من استراتيجية أوسع لحصار منابع الإرهاب فى هذا المسرح الواسع.
ولكن الدافع الرابع ربما كان أهم الدوافع على الإطلاق وهو بناء تحت النار لذلك التحالف العربى الذى يعيد الاستقرار إلى المنطقة من ناحية، ويحقق التوازن الاستراتيجى فى المنطقة من ناحية أخرى. لقد كان التحالف المصرى الخليجى هو حجر الزاوية فى بناء الاستقرار فى الشرق الأوسط طوال نصف القرن الماضى، فحينما اختل التوازن بهزيمة مصر فى حرب يونيو ١٩٦٧ وبنت إسرائيل إمبراطوريتها الكبرى فى المنطقة من القنطرة المصرية إلى القنيطرة السورية؛ فإن هذا التحالف كان هو الذى خاض معركة أكتوبر ١٩٧٣ التى كانت بداية انكماش هذه الإمبراطورية. وحينما اختل التوازن مرة أخرى بعد الثورة الإيرانية ونشوب الحرب العراقية – الإيرانية كان هذا التحالف هو الذى جعل الخمينى يتجرع كأس السم ويقبل بما لم يكن يقبل به من قبل. وحينما طغى صدام حسين وقام باحتلال الكويت، كان هذا التحالف - فى إطار من تحالف دولى- هو الذى قام بتحرير الكويت ليعيد للدولة وحدودها القدسية التى تستحقها. الآن فإن هذا التحالف ذاته هو الذى يعيد الموازين مرة أخرى إلى اعتدالها باستخدام القوة المسلحة، لا فارق هنا بين جبهة القتال ضد داعش على الحدود السورية العراقية، أو ضد منظمة بيت المقدس الداعشية أيضا فى سيناء أو فى درنة بليبيا. وفى التاريخ فإن معارك المصير تخلق تحالفات مصيرية، ولم تكن هناك صدفة أن التحالف الغربى بين غرب أوروبا وشمال أمريكا قد تكوّن عبر حربين عالميتين، والآن فإن التحالف العربى يتكون لحماية أمن المنطقة من البرابرة الفاشيين الجدد تحت أى اسم كانوا. لقد كثر الحديث خلال الفترة الأخيرة عن تكوين قوة عسكرية عربية مشتركة، وتبارى المحللون والمراقبون فى الحديث عن إمكانات وجودها، ولكن القدر شاء أن يحدث ذلك على أرض الواقع؛ فللتاريخ منطقه الخاص!.
نقلا عن المصرى اليوم