كُنتُ أتمنى ألا تنزلق المملكة العربية السعودية إلى حربها- غير المبررة- فى اليمن. وأتمنى أن تبقى هذه الحربُ تحت السيطرة، وألا تتحول إلى جرح يستنزف المملكة، ويذهبُ باليمن إلى متاهات أبعد من قدرة الجميع على احتوائها.
التوازن الإقليمى- مع إيران- لن يكون بالحرب فى اليمن، إلا إذا كان من الوارد أن تمتد هذه الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران إلى كل موضع عربى رسخت فيه إيران أقدامها، وأقصد بذلك سوريا والعراق ولبنان، فتبادر المملكة بحرب جوية ضد الوجود الإيرانى فى هذه البلدان العربية الثلاثة، ولما كان هذا احتمالاً صعب التحقق فإنه كان من باب أولى أصعب أن يتحقق فى اليمن، ليس من باب العجز السعودى عن الفعل، ولكن من باب المروءة عن ضرب الضعفاء، ومن باب التورع عن التورط فى إراقة الدماء العربية بدعوى دعم الشرعية، هذه الحجة الباطلة التى يعرف قائلوها أنها ليست أكثر من أكذوبة تتحدث عن شرعية ورقية وكرتونية تهوى بها ريحُ الحوادث فى مكان سحيق.
مصرُ ينبغى أن يكون لها تصور أوسع لحماية الأمن القومى العربى، تصور يتجاوز فكرة الحرب، ثم يتجاوز فكرة الحرب على أسس مذهبية أو عرقية، فهذه ثقافة متخلفة تجاوزتها الإنسانية من زمان، تصور يقوم على فكرة التعايش السلمى بين مكونات هذا الإقليم، تصور ينطلق من احترام حقوق كل سكان الإقليم فى اختيار مذاهبهم وتحيزاتهم الاعتقادية والحضارية.
مصر تملك العمق التاريخى والإنسانى والحضارى الذى يكفى ليجعل منها نقطة التقاء، ويجعل منها جسر اتصال، ويجعل منها منبر حوار، بين القوى الأعرق فى هذا الإقليم: الفرس، العرب، الترك، الشيعة، السنة، المسيحيين، الأمازيغ، الطوارق. مصر- دون ادعاء- هى عاصمة العروبة بالفعل، وهى قلب الإسلام بالفعل، وهى رمانة الميزان فى هذا الإقليم بالفعل.
نعم: السلامُ الإقليمى هو البعثُ والإحياء الحقيقى لدور مصر الخارجى، لأن ذلك- بكل وضوح- معناه التحرر من المشروع الأمريكى، الذى يستهدف تأمين إسرائيل وحدها، عبر إغراق أهل الإقليم فى مسلسل التدمير الذاتى، وفى مستنقع الحروب غير المبررة إلا بإحياء الفتن المذهبية والعرقية.
نعم: أمريكا تريد أن تكون إيران هى العدو الأول للعرب وليست إسرائيل، وتريد أن تكون تركيا هى عدونا الأول وليست إسرائيل، وتريد أن يكون الشيعة هم عدونا الأول وليس الصهيونية، وهكذا حتى نحترق- أجمعين- فى نار الفتنة التى توشك بعد الحرب السعودية فى اليمن أن تؤذن بدمار ما بقى من حضارة هذا الإقليم.
نعم: مصر- دون سواها- تعرف أنها القادرةُ على إطفاء هذه الحروب التى تهواها أمريكا وتقفُ من ورائها مصلحةُ إسرائيل. مصر كانت فى يوم من الأيام دولة شيعية، بينما كانت إيران دولة سنية، ثم دارت الأيام ليحدث العكس: فتنقلب مصر إلى دولة سنية وإيران إلى دولة شيعية. لكن- فى كل الأحوال وبغض النظر عن المذهب- مصر حضارة عظيمة فى هذا الإقليم، كانت وستبقى. وكذلك فإن إيران حضارة عظيمة فى هذا الإقليم كانت وستبقى. طبعاً تركيا عندها مشكلة التمزق بين هويتها الإسلامية وحلمها الأوروبى، لكن حتى وهى فى هذا التمزق تبقى حالة نموذجية تصور تمزقنا نحن المسلمين بين ماضٍ مجيد من الصعب استعادته وبين حلم أوروبى من الصعب أن نستوعبه، ومن العسير أن يستوعبنا.
مصر- على خلاف من السعودية وإيران وتركيا- لم تتورط فى إراقة الدماء داخل أى بلد فى الإقليم. بل حتى فى عهد مبارك: مصر رفضت التورط فى غزو أفغانستان 2001م، ورفضت التورط فى غزو العراق 2003م. ثم فى عهد المجلس العسكرى الأول رفضت التورط- مع الناتو والأمريكان- فى ليبيا 2011م، ثم سوريا 2012م. والحمد لله أن سقط الإخوان 2013م- بعد أن قطعوا العلاقات مع دمشق استعداداً للتورط- بضغط من تركيا- فى سوريا. والمؤكد أن هذا الموقف المصرى الثابت لم يكن عن ضعف، ولم يكن عن عجز، وبالضرورة لم يكن عن خضوع أو تبعية، بل المؤكد: أنه كان يعكس- حتى فى ظل الضعف- قدراً كبيراً من استقلال القرار الوطنى، بل قدراً من الالتزام الأخلاقى، إذ ما كان أيسر من بيع ذممنا لإرضاء الأمريكان، ثم الاستفادة بغير قليل من الدولارات والتسهيلات يدفعها الأمريكان مباشرة أو يكلفون غيرهم- فى الإقليم- بسداد فاتورتها.
من مصر- دون سواها- تجسدت فكرة القومية العربية كحقيقة إقليمية وكواقع دولى، وكانت- فى منشئها- غير مصرية، لكنها نجحت عندما تبنتها مصر، ثم سقطت مع هزيمة مصر فى يونيو 1967م، ثم دُفنت مع احتلال بلد عربى لبلد عربى آخر فى أغسطس 1990م.
وما لم تنطلق من مصر فكرة عربية جديدة سوف يستمر هذا الدمار العربى، وما لم تنطلق من مصر فكرة جديدة للسلام الإقليمى سوف تسعد أمريكا وإسرائيل بهذا الصدام العبثى بين العرب وجيرانهم الأقربين: إيران والترك والإثيوبيين.
لن تحيا مصر: فى إقليم يتم استدراجه- عن قصد- للدمار الذاتى.
بل تحيا مصر: بمشروع- هى مؤهلة له وقادرة عليه- للسلام مع النفس، ثم للسلام مع الإقليم، ثم للسلام فى الإقليم كله.
والحديث مستأنف.
نقلا عن المصري اليوم