يُعد «أحد السَّعَف» الذى يحتفل به مَسيحيُّو الشرق هو العيد الذى يسبق «أسبوع الآلام»، ويأتى عيد «القيامة» الأحد التالى له. و«أحد السعف» أو «عيد الشعانين» هو عيد دخول «السيد المسيح» إلى مدينة أورُشليم، حيث يوجد الهيكل، للاحتفال بالفصح حسب عادات اليهود. وفى الطريق إلى أورُشليم وحتى دخول المدينة، استقبلت الجموع «السيد المسيح»، وكان عددهم يصل إلى المليونين ونصف المليون نسَمة تقريبًا بحسب ما ذكر المؤرخ اليهودى «يوسيفوس»، وقد حضروا للاحتفال بالعيد، واستقبلوه بسَعَف النخل، كعادة اليهود فى استقبال أتقيائهم وصالحيهم وأنبيائهم وملوكهم بمثل هذه الأغصان متى عادوا منتصرين، مع هتاف عظيم اهتزت له المدينة.
وفى ظل هذه الاحتفالية الشعبية، التى ذُكرت على صفحات التاريخ، نجد شخصيات المشهد تتعدد وتتنوع، وتأخذ كل منها طابعًا خاصًا بها، فنرى: صاحب الحدث «السيد المسيح»، ومن حوله «تلاميذه»، و«المرافقين» فى الطريق، و«جموع الشعوب» المستقبلة له فى المدينة، و«الأطفال»، وبعض «اليونانيِّين»، و«رؤساء الكهنة»، و«اليهود». وفى هذه المقالة نُلقى الضوء على بعض تلك الشخصيات.
«السيد المسيح» وداعته
تحدث «السيد المسيح» عن الوداعة، ففى العظة على الجبل قال: «طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض»، وإذا هو يدخل أورشليم وديعًا ومتواضعًا كما ذُكر عنه «... هوذا ملكك يأتيك وديعًا، راكبًا على أتان وجحش ابن أتان». فيقدِّم رسالة الوداعة هذه المرة بطريقة عملية، فهو لم يدخل المدينة فى مظاهر العظمة التى كانت تواكب الملوك والحكام، وإنما دخلها محوطًا بمحبة واحتفاء الشعب البسيط، فى مظهر بسيط لا يرضى به فكر العظماء المتعالين. وقد أدرك التلاميذ والرسل هذا الأمر، فأصبحت الوداعة تعليمًا ومنهجًا وسلوكًا فى حياتهم مرتبطًا بالحكمة: «من هو حكيم وعالم بينكم، فليُرِ أعماله بالتصرف الحسن فى وداعة الحكمة».
إن الوداعة هى كَنز عظيم يَكفى الإنسان كثيرًا من الشرور. تأثرتُ بإحدى القِصص التى تحكى عن الأب الذى كان يقوم بتلميع سيارته الجديدة. فإذا ابنه البالغ من العمر أربع سنوات يُمسك بحجر ويخدش به أحد جوانب السيارة! وحينما رأى الأب فِعلة ابنه، غضِب بشدة وضرب يده عدة مرات، دون أن يشعر بالأداة الحادة، ما أدى إلى بتر أصابع الابن فى المستشفى!! وكان الابن يسأل الأب: متى تنمو أصابعى؟ ما سبَّب ألمًا شديدًا لأبيه. عاد الأب إلى السيارة، فنظر إلى الخُدوش التى أحدثها الابن ليجده قد كتب: «أنا أحبك، يا أبى»!!
ما أيسر أن ينفعل الإنسان، ويتخذ المواقف والقرارات، ويعامل الآخرين بجفاء شديد! وما أصعب أن يحتمل الإنسان، ويسلك طريق الوداعة! إنه الفارق بين الضعف والقوة، والموت فى مقابل الحياة.
تواضعه
فى بساطته وتواضعه، قدِم السيد المسيح إلى أورُشليم على جحش، ولم يختَر أن يأتى على فرس حرب أو خيل، أو مركَبات، إنه التواضع الذى أرادنا أن نسلك على مثاله: تواضُع القوة! فالتواضع فى عينى الله له ثمن كثير، وهو، تبارك اسمه، يرفع المتواضعين ويساندهم فى كل أمور حياتهم. لذلك قيل: «فتواضعوا تحت يد الله القوية لكى يرفعكم فى حينه...».
تلاميذ السيد المسيح
رافق السيدَ المسيح فى رحلته تلاميذه، وقدَّموا إليه كل ما لديهم، قدَّموا قُمصانهم وافترشوها فى الطريق. لقد كانت ملابسهم هى كل ما يمتلِكونه، ولأجل ما يمتلكونه من محبة عميقة نحو سيدهم، لم يترددوا فى تقديمها إليه، بل وضعوها تحت قدميه! فما أعظم تلك النفوس التى لا تعرِف إلا أن تقدم وتمنح من حولها! إنها أنفس ارتبطت بمحبة عميقة لله، فلم تبحث عن شىء إلا أن تكون له!
الأطفال
ولا يختفى الأطفال من مشهد الدخول إلى أورُشليم، فها هم يجتمعون ويصيحون بأعلى صوت لهم فى استقبال السيد المسيح الذى طالما أحبهم واهتم بهم. وحينما حاول تلاميذه، ذات يوم، أن يُبعدوا الأطفال، الذين قدِموا إليه ليلمسهم، وانتهروهم، منعهم السيد المسيح وقال: ««دعَوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم...». لم يجد الأطفال ما يقدمونه إلى السيد المسيح سوى محبتهم وفرحهم به، فقبِلهم بسرور وسعادة. وهنا أتذكر قصة عن أب كان يعمل فى حجرة مكتبه بالمنزل، لتدخل إليه طفلته الصغيرة، وكانت تحمل هدية له فى علبة وقدمتها إليه. فقام الأب بفتح الهدية، ليجدها علبة فارغة! فغضِب من ابنته وسألها عن سر تقديمها علبة فارغة. فإذا الدموع تنهمر من الطفلة! وتقول له: إنها ليست فارغة، يا أبى، فقد ملأتُها لك بقبلاتى ومحبتى!! وهنا أدرك الأب أن العلبة ليست فارغة، وإنما هى تحمل ذلك الحب العميق الذى لا يُرى بالعين المجردة، بل تحمله النفوس فى أعماقها فيراه من له عمق البصيرة. وهكذا قدم الأطفال فى يوم الأحد من محبتهم البسيطة العميقة نحو السيد المسيح.
اليونانيُّون
وفى «أحد السعف»، امتلأت «أورُشليم» من اليهود الذين حضروا للعيد. ويُذكر أن من القادمين أناسًا يونانيِّين صعِدوا ليسجدوا فى العيد. ويرى بعضٌ أن أولئك كانوا من اليهود الذين عاشوا فى البلاد اليونانية وحصلوا على جنسيتها اليونانية. كما يرى آخرون أنهم يونانيو الأصل، آمنوا بالله، وتهوَّدوا، وليسوا يهودًا هاجروا إلى بلاد اليونان. وتقدم هؤلاء إلى «فِيلِبُّس» تلميذ السيد المسيح وسألوه قائلين: «يا سيد، نُريد أن نرى يسوع». فأبلغ «فِيلِبُّس» الأمر إلى «أندراوس» تلميذ السيد المسيح أيضًا، ثم ذهبا الاثنان وأبلغا طلب هؤلاء إلى «السيد المسيح».
لقد سمِع هؤلاء اليونانيُّون عن السيد المسيح، وأرادوا أن يلتقونه. وهم يُذكروننى بالمجوس الذين حضروا من المشرق للقاء الطفل الوليد الذى رأَوا نجمه فى المشرق، وكان اللقاء فى المذود. كذلك هؤلاء اليونانيُّون سمِعوا عن المسيح، وربما شهِدوا اهتزاز المدينة فى استقباله من الهُتاف الذى وصل العَنان، فطلبوا أن يرَوه، ويتحدثوا إليه. وبالرغم من تواضع «السيد المسيح» وبساطته ووداعته التى يعتقد بعضٌ أنها لن تجذِب أحدًا إليه، بحسب مقياس البشر، إلا أنها على العكس شدت انتباه الجميع نحوه، فبحثوا عنه، وكانوا يجِدُّون فى طلب رؤيته. إن رسالة السيد المسيح التى حملت معها مفاهيم جديدة عن العظمة والقوة، تُخالف ما يعرِفه هؤلاء اليونانيُّون، وصلت إلى أعماق كل من يبحث عن الحق والسلام، فاستحقوا أن ينالوا البركات بلقاء شخصه المبارك.
الفَرِّيسيُّون
الفَرِّيسيُّون مجموعة أخرى فى مشهد ذلك اليوم العظيم، فعندما رأَوا احتفال الشعب بـ«السيد المسيح»، قالوا بعضهم لبعض: «انظروا! إنكم لا تَنفعون شيئا! هوَذا العالم قد ذهب وراءه!». إنهم لا يبحثون إلا عن مجدهم وذواتهم وكرامتهم، غير مبالين بما هو للحق؛ لذلك صارت لهم الأذهان التى لا تمتلِك إلا الخوف من فقدان المراكز والمناصب الدينية التى اعتلَوها. لقد كان أهم ما يَعنيهم هو البحث عن القوة وتمجيد الناس إياهم، فخسَِروا كل شىء! وهكذا اندفعوا نحو «السيد المسيح» يطلبون إليه أن ينتهر تلاميذه والجموع ليكفوا عن الصياح. وفى هذا تذكرتُ كلمات أعجبتنى عن الشخص الذى يستحق أن تُطلق عليه صفة «القوة»، ويوهب «الكرامة»، إنه: «ذلك الشخص الذى يحتوى ويحتمل أكبر عدد من القلوب».
ومن العجيب أنهم يماثلون تلك المجموعة من رؤساء الكهنة وكتبة الشعب الذين شهِدوا ميلاد السيد المسيح، وسألهم «هِيردُوس» الملك عن المكان الذى يولَد فيه ملك اليهود، فأخبروه أنه يولَد فى «بيت لحم». وذهب المجوس الذين سعَوا إلى رؤية «السيد المسيح»، وتباركوا منه، فى حين خسَِرها الكهنة والكتبة. واليوم يأتى اليونانيُّون الباحثون عنه، ويلتقونه، فى الوقت الذى يبتعد الفَرِّيسيُّون فيه عن كل بركة.
كل عام وجميعكم بخير.
و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
نقلا عن المصرى اليوم