فى مواجهة أخطر مصادر التهديد الخارجية، وهو تهديد حقوق مصر- الطبيعية والمكتسبة والقانونية- فى مياه النيل، يقود الرئيس السيسى تفكيرا جديدا بالتحول من الصراع الى التعاون فى ادارة أزمة سد النهضة الإثيوبى على النيل الأزرق، ويتبنى نهج الكسب المتبادل، بدلا من نهج اللعبة الصفرية، التى ترى أن مكاسب مصر ليست سوى خسائر لإثيوبيا، والعكس صحيح.
وهذا التفكير الجديد ينطلق من حقيقة أن النيل مسألة حياة أو موت للمصريين، ويحترم حاجة إثيوبيا وحقها فى توليد الكهرباء لأغراض التنمية. ويبقى السؤال: ما هى فرص وقيود توصل الطرفين الى اتفاقية ملزمة لا تضر بالأمن المائى المصرى؛ وتضمن سلامة السد فنيا، وتلتزم باستهدافه توليد الكهرباء، وتنظم تخزين مياهه ومعدلات تصريفها؟
وإذ أسجل باستقامة اتفاقى مع نهج الكسب المتبادل، أرى أن نجاحه يتوقف على صلابة المفاوض المصرى فى حماية الأمن المائى المصرى، باستيعاب أصوله. وأوجز أولا، ما سجله جمال حمدان فى شخصية مصر، يقول وبحق: إنه ما من رباط لمصر بالعالم الخارجى أقوى وأعمق من النيل, وما من منطقة خارجية يمكن أن ترتبط بها مصر أكثر وأشد من تلك التى يربطها بها النيل، ولهذا كان حقاً وحتماً أن يجئ البعد النيلى في طليعة أبعادنا الخارجية أولاً، ومحورياً في بعدنا الإفريقى على وجه التحديد ثانياً. فمصر هى النيل؛ لم تكن لتوجد بدونه؛ لأنها شبه واحة؛ لا تعتمد على المياه الجوفية، كما لا تعتمد على المطر؛ واعتماد الزراعة فيها على الرى اعتماد مطلق، بينما تجد الزراعة فى دول المنابع كفايتها من الماء فى المطر دون أدنى حاجة الى ماء الرى. ومياه النيل المتدفقة الى مصر ليست منحة أو منة من أحد وإنما حقوق مكتسبة يعترف بها القانون الدولى؛ وليست موارد مغتصبة كما روج دعاة منع مياه النيل عن مصر أو بيع مياه النيل لمصر! ويتمتع حوض النيل بموارد مائية صيفية تكفى حاجات كل سكانه فى المنبع والمصب, إذا ما أحسن استخدامها واكتمل استغلالها، والسياسة المائية- كما أرستها ورسمتها خطة الطبيعة نفسها- إنما هى التعاون لا الصراع, وعلى هذا الأساس ينبغى التنسيق بين دول الحوض.
وثانيا، أن مصر بنسبة المساحة تعد إحصائياً أكبر وأكثر الدول صحراوية فى العالم بلا استثناء، ولا تعدو مصر الوادى مجرد خدش بسيط ضحل على صفحة الصحراء، وفى بيئة الرى- على مدى تاريخها وحتى بناء السد العالى- كان ارتفاع أو انخفاض منسوب الماء سنتيمتراً واحداً يحدد الخط الفاصل بين الغَرق والشَرق، أو بين الحياة والموت. وقد تعاظم فقر مصر المائى مع نمو السكان ونمو الاقتصاد وتضاعف الاحتياجات بما لا يتناسب مع مواردها من المياه العذبة؛ وتقدر الدراسات العلمية الرصينة احتياجات مصر من المياه العذبة لجميع الأغراض حتى عام 2017 بنحو 87 مليار متر مكعب، بينما لا تتجاوز حصة مصر من مياه النيل بنحو 55 مليار متر مكعب. واجمالى المياه العذبة المستغلة ومتوسط نصيب الفرد منها فى مصر هى الأدنى مقارنة بغيرها من دول حوض النيل. ولا تزيد نسبة المياه الممكن استغلالها فى مصر على نحو 20 % من احتياجاتها المائية المستقبلية، وفى المقابل فان النسبة المثيلة، والتى تتركز فى مصادر متجددة، تصل لأكثر من 164 % فى إثيوبيا، و124 % فى أوغندا، على سبيل المثال. واذا كان سجل إخناتون قد سجل قديما أن للبلاد الأخرى نيلاً يهبط إليها من السماء!! فقد سجل جمال حمدان حديثا أن النيل الأزرق هو المورد الأول للمياه العذبة فى مصر، إذ يوفر وحده نحو 66% من موارد مصر.
وثالثا، أن نهج تعظيم فرص التعاون لا ينبغى له تهوين مخاطر الصراع؛ إذا كان ولا يزال التهديد بمياه النيل- كسلاح سياسى- من أهم أدوات السياسة الاستعمارية ضد مصر، لأنه مقتل كامن أو ممكن لمصر، عن سوء فهم أو سوء نية، ولا غرابة إذن أن تكون السياسة المائية بالنسبة لمصر مسألة حياة أو موت لا أقل، كما لخص جمال حمدان. وفكرة استخدام مياه النيل كسلاح سياسى من خلق أو إيعاز الاستعمار، ولم يستبعد إميل لودفيج فى مؤلفه الرائد والفريد (النيل حياة نهر، 1937) خطر الإضرار بمصالح وحقوق مصر المائية, لأن هنالك ألف وجه لمنع جريان المياه طليقة من غير أن تحبس بسد حبسا تاما. وفى هذا السياق يورد موردا تهديد اللورد ملنر المبطن قبل عام 1900: (من يدرى أن إحدى الدول العظيمة, أو إحدى الحكومات التى تساعدها أمة متمدنة, لا تقوم ذات يوم بأعمال كبيرة على النيل فتحول, لسقى أراضيها, الماء الضروري لمصر.. عن مصر)!! ويوضح محمد عوض فى كتابه نهر النيل (الطبعة الثانية، 1948)، أن الاستعمار البريطانى حتى تخضع مصر لوجوده وسيطرته تبنى سياسة الدس والإيقاع بين دول الحوض وتأليبها على مصر، وأوعز الى بعض عملائه المحليين بأكذوبة وخرافة الحقوق المغتصبة يشرعها فى وجه الحقوق المكتسبة، وفى مجلس العموم البريطانى، صرخ عضو بعد الحرب العالمية الثانية يقول: لو كنت المهدى لجعلت مصر تدفع ثمن كل لتر من الماء يجرى فى النيل! وفى عهد عبد الناصر طالب آخرون بمنع مياه النيل عن التدفق إلي مصر! كما عمدت بريطانيا الاستعمارية قبل أن ترحل الى استثارة أوغندا وكينيا وتنزانيا للمطالبة بحصص فى مياه النيل!
وقد سجلت قبل سنوات أن الصورة الذهنية السائدة بين عامة الاثيوبيين عن المصريين أنهم (حرامية المياه)!! ومع الصلابة فى الدفاع عن أمنها المائى وحقها فى الحياة، يمثل تصحيح صورة مصر فى بلدان حوض النيل- بجانب التعاون الاقتصادى والشامل- ضرورة لتحقيق الفهم والكسب المتبادل، وخاصة فى إثيوبيا، وفى هذا السياق تبرز أهمية خطاب الرئيس السيسى أمام البرلمان الإثيوبى.
نقلا عن الأهرام