قيل من قبل إنه «لا بد من صنعاء وإن طال السفر». وأعتقد أنه جاء الوقت الذي نقول فيه: «في اليمن لا بد من الدولة العصرية وإن طال السفر». يجب عدم إضاعة دقيقة واحدة في تعليم الأطفال.. إنه قد يكون فردًا في قبيلة عليه أن يعتز بها، غير أنه في الأصل مواطن في دولة، وإن هذه المواطنة يجب أن تحتل في قلبه وعقله وعواطفه المركز الأول.
كان اليمن هو البلد الوحيد على ظهر الأرض الذي وصف بأنه «سعيد». وأنا أعتقد أن هذه الصفة، التي لا أعرف مصدرها، لعبت دورًا أساسيًا في شقاء هذا الشعب، فعندما تولد ثم تكتشف في طفولتك أنك تنتمي لشعب سعيد، فلا بد أن يدفعك ذلك إلى الشعور بأنك على ما يرام في كل الأحوال، وأنه من الخطأ أن تفكر في تغيير شيء في بلدك حرصًا على دوام سعادته وسعادتك. أما لحظات الشقاء والتعاسة التي تمر بك معظم الوقت، فلا بد أنها تنبع من داخلك أنت، وليس من أي مكان في بلدك، أو في نظام الحكم الذي يحكمك. باختصار، الكلمات الخاطئة التي لا تعني شيئًا له وجود على أرض الواقع، عندما يتفق عليها الجميع، كفيلة بالذهاب بكل الناس إلى الجحيم.
أترك اليمن وأعود إلى مصر في المراحل الأولى لثورة يوليو. هي مرحلة كثيفة الأحداث كثيرة الأغاني.. فمن تقاليد ذلك الزمن الثورية، وجود أغنية أو أكثر لتغطية حدث ما. وتندثر الأحداث وينساها الجميع، وتظل أنغام الأغنية في أذهان الناس. قبل الثورة اليمنية في بداية ستينات القرن الماضي، حدث نوع من الوحدة أو الاتحاد بيننا وبين اليمن، لست أذكر التفاصيل، غير أن شطرًا من الأغنية ما زال حيًا في ذاكرتي.. «من مصر وسوريا لليمن السعيد.. لك مليون تحية يا شعب العراق».
في الغالب كانت الأغنية تحيي أحد انقلابات العراق المتعاقبة، كما كانت تحمل اعترافًا باسم اليمن المعتمد وهو «السعيد». ثم قامت الثورة في اليمن وأسرعنا لتأييدها.. في ذلك الوقت ظهرت نكتة جديدة في الشارع؛ كانت سينما «مترو» تعرض فيلمًا اسمه «ثورة على السفينة بونتي» فأرسل الزعيم عبد الناصر برقية لسينما «مترو» قال فيها: «نؤيد (الثورة على السفينة بونتي)، وأي عدوان عليها سنعتبره عدوانًا علينا».
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فقد جاء أحد زعماء الثورة العسكرية اليمنية ودخل مستشفى في القاهرة للعلاج، وتخلى عن الثورة ولم يعد لليمن.. أقنعته الممرضة بالبقاء في مصر، خصوصًا بعد أن اكتشف المعنى الحقيقي لكلمة «سعادة». في ذلك الوقت، وربما في أوقات أخرى، كانت أجهزة الأمن لديها ممرضات جميلات ومدربات على التعامل مع الزعماء الثوريين الجائعين إلى الحب والحنان. ومن المعروف أن الإنسان، خصوصًا حين يكون مريضًا، عندما يضع الثورة في كفة والحب والحنان في كفة أخرى، فإنه يتخذ قرارًا بأن تذهب الثورة إلى الجحيم.
ما أريده من المثقفين اليمنيين هو أن ينشغلوا بالتفكير في تعليم الشعب اليمني، أن الدولة العصرية نظام حكم يمكن الوصول إليه بسهولة في اليمن، وأن الإخلاص للدولة فيه الضمانة بعدم موت المواطنين في الشوارع بسبب إخلاص البعض لزعيم ليس مخلصًا لهم بحال من الأحوال.
نقلا عن الشرق الأوسط