التراث الإسلامى فى مجمله هو المنتج البشرى المنقول الشفوى والكتابى للأمة الإسلامية، وهذا التراث يتطور من وقت لآخر، بما يتوافق ومتطلبات العصر، ومن أجل أن نوفى هذه المتطلبات تعين علينا فهم هذا التراث، واستنباط النظريات والمناهج العلمية منه، وتبرز هنا أهمية فهمه، وهذا الفهم يحتم علينا أن نمتلك الأدوات الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل معه.
فالموروث الإسلامى إجمالاً عبارة عن مكونين: نتاج فكر، وواقع تاريخى، والنتاج الفكرى محل عمله يكون فى القرآن والسنة مصدرى المعرفة الأساسيين عند المسلمين، باعتبارهما وحيا، والنتاج الفكرى له ثمرة وهى ما يخرجه البشر بتفاعلهم مع هذين المصدرين من رؤى وأفكار وعلوم ومناهج وأحكام وممارسات، لأن النص (القرآن والسنة) محور الحضارة الإسلامية التى بنيت عليه، فعلم الفقه مثلاً هو من القرآن إجمالاً، والقليل منه من القرآن مباشرة، إلا أننا نجد أنه يحتوى على مئات الآلاف من المسائل الفقهية، بينما آيات القرآن الكريم أقل من ذلك بكثير، من حيث العدد والحجم، وعليه تكون الانطلاقة من القرآن الكريم.
والواقع التاريخى، أو الواقع هو ما يقابل النتاج الفكرى، وقد كان العالِم التراثى حريصًا على أن يبقى تعامله العلمى مع هذه العوالم تحت مظلة النص وسلطانه وعلى اتصال وثيق به، بما يؤكد حقيقة أن «النص» كان محورًا للحضارة، بمعنى أننى حينما أذهب وأتعامل مع الواقع لا بد أن أمام عينى نظارة النص. والمثال أن المسلم الفلكى القديم طوّع علوم الفلك لخدمة دينه، وتخدمه هو أيضًا، فجاء علم الفلك الذى كان نتاج رغبتهم فى ضبط مواقيت الصلاة وغيرها، وهذا بالنسبة لتفاعله مع عالم الأشياء الذى هو جزء من الواقع، أما بالنسبة لتعامل النص مع عالم الأفكار، نجد أنه كان محركًا للآداب والعلوم ومنشئًا لها.
وخلاصة هذا أن هذا الموروث إما أنه نتاج بشرى أو مصادر أصلية، والذى ينبغى علينا هو أن نفهم هذا التراث الإسلامى فهمًا جيدًا، لكى نستخلص «المناهج» أو ما يسمى المناهجية وهى علم توليد المناهج، وأيضًا نستخلص منه طرائق التفكير، كيف كانوا يُعملون عقولهم دون الالتفات إلى الموضوعات أو التفصيلات التى كانوا يفكرون فيها.
نأتى تحديداً إلى قضية إشكالية التراث الفقهى الذى دونته مدونات الفقهاء العظام، ومع اعترافنا الكامل بأنه منتج بشرى خالص يتمثل فى اجتهادات وآراء هؤلاء الأئمة الأكارم فى نصوص الكتاب والسنة، وفق ما تقتضيه قواعد اللغة العربية وأصول الفقه وسائر علوم الاجتهاد، إلا أن المناداة بالاستغناء عنه وطرحه بالكلية لأن به من المسائل المهجورة أو المستغربة أو التى تجاوزها الزمان كذا وكذا من المسائل- يعد أمراً مجحفاً بكل المقاييس.
علينا أن ندرك أمرا غاية فى الأهمية فى الصناعة الفقهية، وهو أن الفقهاء كان يغلب عليهم الموضوعية الشديدة والجنوح إلى التجريد والتعمق فى إجراء واطراد القواعد الفقهية والأصولية، ونظرا لما كان يفتقر إليه واقعهم من تلك الأدوات والتقنيات والمعامل والمختبرات الحديثة التى تساعدهم على تصور الواقع وإدراكه تصورا صحيحا، ومن ثم فقد أضافوا إلى معارف عصرهم البدائية البسيطة التى ربما ثبت عدم صحة كثير منها- أضافوا شيئا من الخيال فى التصور لبعض المسائل كديمومة الحمل سنين متعددة وغير ذلك من الصور الافتراضية التخيلية التى قد لا تحدث أصلا بناء على ما جزم به العلم الحديث أو تحدث نادرا جدا، وهذه المسائل ليست عماد المنظومة الفقهية ولا هى كثرة غالبة فى التراث الفقهى، فالتراث الفقهى يحتوى على ملايين المسائل فى شتى المجالات، فكيف نهدره لأجل بعض المسائل التى ثبت خطؤها بناء على ما جزم به العلم الحديث، ولا تثريب على الفقهاء فى ذلك.
أما ما لم يعد مناسبا لأعصارنا وعوائدنا، وأصبح عائقا أمام يسر وسهولة المعيشة، بحيث يعد الالتزام به غير رافع للحرج، فهذا لا بد من إعادة النظر والاجتهاد فيه. كذلك ما كان إجماعا مبنيا على مصلحة لم تعد موجودة، فإن مخالفته لا تعد مخالفة للإجماع فى شىء.
لو تعاملنا مع التراث بهذه الطريقة الوسط التى تتجافى عن طرفى التقديس والتدنيس لاستفدنا منه أكبر استفادة، ولجنبنا أنفسنا كثيرا من المعارك والتطاحن فى غير ما طائل، ولحمينا هؤلاء الذين يتساقطون من بين أصابع الإسلام صرعى هذه المعارك، فيكفرون بالدين بالكلية أو يهيمون على وجوههم لا يلوون على شىء. إن التحديات التى تواجه الأمة أعظم بكثير من أن إهدار طاقتنا وطاقات الجمهور فى مسائل متخصصة متعمقة، ربما يكون الحديث فيها بغير علم وفهم فتنة لبعضهم، وسنتحمل أوزاها أمام الله- تبارك، وتعالى.
نقلا عن المصري اليوم