د.عبدالخالق حسين
من نافلة القول، أن هناك عداء شديد، وحساسية مفرطة من قبل الحكومات العربية والغربية ضد إيران، رافقته حملات اعلامية متواصلة تشنها وسائل إعلام هذه الحكومات لتشويه صورة إيران وإثارة مخاوف وهمية لدى شعوبها بالإدعاء بأن لإيران مطامع توسعية في البلاد العربية، لإعادة مجد إمبراطوريتها في الأزمان الغابرة. وقد بلغ بهم العداء إلى حد أن أمريكا وبدعم من الدول الخليجية دفعت صدام حسين لشن حرب على إيران في الثمانيات من القرن الماضي، على إثر ثورتها الإسلامية. وعقدة إيران عند العرب عامة وفي العراق خاصة عقدة قديمة، تطرق إليها الباحث الإسلامي الدكتور غسان نعمان ماهر السامرائي في بحثه القيم بعنوان: (عقدة إيران في العراق)(1)
سألني الصديق الأكاديمي، الدكتور مثنى كبة عن أسباب هذا العداء العربي المستفحل ضد إيران التي لم تستعمر أي بلد عربي، بينما تركيا استعمرت العراق ومعظم البلدان العربية لأربعة قرون ودمرتها وأعادتها إلى قعر التخلف، بينما العرب يحبون تركيا ويعادون إيران، فلماذا؟
كان أقصر جواب لدي هو أنه بدوافع طائفية، فالحكومات العربية سنية، بينما إيران شيعية، خاصة والعرب يستخدمون الشحن الطائفي في هذا العداء. وكنت قد نشرت قبل ثمان سنوات مقالاً في هذا الخصوص بعنوان (مشكلة العرب أن الطائفية عندهم أقوى من القومية)(2). فأجاب الصديق العزيز معترضاً: "ولكن جمهورية آذر بيجان أيضاً شيعية، فلماذا لا يعاديها العرب؟"
اعتقد أن اعتراض الدكتور كبة صحيح ومشروع، وعليه لا بد من سبب آخر لهذا العداء وهو سياسي يتعلق بالمصالح. فالدول الخليجية، وخاصة السعودية كانت على علاقة حميمة مع إيران في عهد الشاه، يوم كانت إيران على علاقة حميمة مع أمريكا والغرب. بل وتزوج الشاه محمد رضا بهلوي (الشيعي) من الأميرة فوزية اخت الملك فاروق (السنية). وكانت إيران الشاه آنذاك تلعب دور كلب الحراسة للمصالح الغربية في منطقة الخليج، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى عُمان (مسقط)، للقضاء على حركة ظفار اليسارية.
إذنْ، لا بد وأن يكون السبب سياسي، ويتعلق بموقف إيران من أمريكا. ولما تغير موقف إيران من أمريكا خاصة، والغرب وإسرائيل بصورة عامة بعد ثورتها الإسلامية عام 1979، واختطاف 52 مواطنا أمريكيا من منتسبي السفارة الأمريكية في طهران، واحتجازهم لمدة 444 يوماً، من 4 نوفمبر 1979 حتي 20 يناير 1981، وطرد الدبلوماسية الإسرائيلية وفتح السفارة الفلسطينية. وبما أن الدول العربية وخاصة الخليجية في تحالف إستراتيجي مع أمريكا والغرب، لذلك أثير هذا العداء ضد إيران، فرضاء هذه الدول من رضاء أمريكا. إضافة إلى برنامج إيران النووي الذي أثار الرعب والغضب لدا إسرائيل وحلفائها في الغرب والمنطقة.
أما الطائفية فكانت موجودة عبر التاريخ، ولكنها كانت خامدة كالألغام يتم تفعيلها وتفجيرها عند الحاجة في مثل هذه الحالات للتعبئة الجماهيرية كغطاء عن الأسباب السياسية والمصالح المادية. أما عدم عداء العرب لأذربيجان فلأن هذه الدولة صغيرة ولم تحاذي البلاد العربية، وليست في حالة منافسة سياسية مع العرب، وربما لم يعرف العرب مذهبها الديني! والمفارقة أنه عندما اشتعلت الحرب بين أذربيجان الشيعية وأرمينيا المسيحية، وقفت إيران إلى جانب أرمينيا.
لا شك، أن توتر علاقة الغرب والدول الخليجية مع إيران انعكست سلباً على العراق. فعندما ساءت علاقة إيران مع أمريكا بعد الثورة الإسلامية دفعت أمريكا، ومعها السعودية والدول الخليجية، صدام حسين لشن حرب على إيران، دامت ثمان سنوات أهلكت الحرث والنسل في البلدين، لتفرخ حروباً أخرى انتهت بسقوط صدام وتدمير العراق.
وبعد إسقاط حكم البعث الصدامي انعكست علاقة إيران بالعراق بشكل أوضح، وسلبية لا تخلو من أضرار بالشعب العراقي. فالحكومات العربية كانت تأمل من التغيير في العراق مجرد إزاحة صدام وأزلامه المقربين منه فقط، وإبقاء نظام الحكم كما كان دون مساس، أي احتكار السلطة من قبل مكون واحد (العربي السني)، والاكتفاء بمشاركة شكلية (ديكورية) لممثلين من المكونات الأخرى. بينما الذي حصل هو نظام ديمقراطي حقيقي (ومفاجئ دون تحضير)، يعتمد صناديق الاقتراع للتداول السلمي للسلطة. وهكذا نظام لم تقبل به السعودية وأخواتها الحكومات الخليجية خوفاً من وصول عدوى الديمقراطية إلى شعوبها فتطالب بنظام ديمقراطي مثيل، لذلك أطلقوا العنان لمشايخ الوهابية بإصدار الفتاوى التحريضية لإشعال الفتن الطائفية، وقاموا بإرسال الإرهابيين إلى العراق لإثارة الفوضى العارمة فيه، ترافقها حملات إعلامية لتشويه صورة الديمقراطية، وأن العراق أصبح مستعمرة إيرانية...الخ.
فالنظام الديمقراطي أعطى كل مكونة حقها في الحكومة وفق حجمها في الشعب وما تفرزه صناديق الاقتراع. ولذلك كان المستفيد الأكبر من الديمقراطية هم الشيعة الذين نظموا أنفسهم، أسوة ببقية المكونات، في أحزاب ذات صفة مذهبية لأن ظلم حكم البعث الصدامي، ورغم أنه نال كل مكونات الشعب، ولكن كانت للشيعة حصة الأسد من هذا الظلم، فملأ بهم المقابر الجماعية، وشرد منهم نحو 4 ملايين، ورفع شعار (لا شيعة بعد اليوم)، وأمعن في تشويه صورتهم، مما أدى إلى تخندق أغلب القوى السياسية الناشطة وفق الانقسام الديني والطائفي والأثني (القومي)، وتراجع، بل وانحسر دور الأحزاب العلمانية العابرة للطائفية والأثنية والمناطقية.
وعلى مستوى الحكومات، كانت إيران وسوريا من أكثر المستفيدين من سقوط حكم البعث الصدامي، وكان بالإمكان كسب هاتين الحكومتين لصالح عملية التغيير في العراق، التي قادتها أمريكا، حيث تعاونت إيران مع أمريكا في إسقاط حكم طالبان في أفغانستان. فقد جاء في تقرير مطول، من 20 صفحة نشرته مجلة الـ (نيويوركر) الأمريكية، بعنوان: (قائد الظل: قاسم سليماني)(3)، تطرق إلى اتصالات دبلوماسية سرية لسنوات بين أمريكا وإيران لإعادة العلاقة بينهما، وخاصة في التعاون على إسقاط نظامين عدوين مشتركين لهما: حكم طالبان في أفغانستان، وحكم صدام في العراق. وهذه الاتصالات كانت تجري بدون علم الرئيس بوش الابن.
وكان ريان كروكر الذي صار فيما بعد سفيراً لدى العراق بين العامين 2007 و2009 ، أحد الدبلوماسيين الأمريكيين المفاوضين مع إيران خلال التحضيرات للحرب على طالبان وصدام. وكان أعضاء الوفد الإيراني برئاسة قاسم سليماني، سعيدون جداً بهذا التعاون، ويرغبون في إعادة العلاقة مع أمريكا. وينقل التقرير عن ريان كروكر أن الإيرانيين كانوا على استعداد للتعاون معنا في العراق، ولكن لم تستمر الإرادة الطيبة طويلاً. في كانون الثاني 2002، وكان كروكر أصبح في حينها نائب مسؤول السفارة الأميركية في العاصمة الأفغانية كابول، أيقظه مساعدوه ليلاً ليبلغوه أن الرئيس الأميركي جورج بوش سمّى إيران عضواً في "محور الشر". الأمر الذي أثار غضب الوفد الإيراني المفاوض وعلى رأسهم سليماني الذي شعر بأنه فُضح. لقد أوصل خطاب "محور الشر" الاجتماعات إلى نهايتها. ووجد الإصلاحيون داخل الحكومة الإيرانية الذين كانوا يدافعون عن التقارب مع الولايات المتحدة أنفسهم في موقف دفاعي. وحين يتذكر كروكر تلك الفترة يهز برأسه ويقول "كنا قريبين جداً. كلمة واحدة في خطاب غيّرت التاريخ."
ولذلك قررت كل من إيران وحليفتها سوريا إغراق أمريكا في وحل المستنقع العراقي. وهنا تلاقت مختلف الإرادات لدول متناقضة، كل لها هدف معين ومختلف في إفشال الديمقراطية في العراق. السعودية ومعها الدول الخليجية وتركيا لأسباب طائفية وسياسية واقتصادية ضد قيام نظام ديمقراطي مستقر في العراق.(راجع مقالنا: اسباب عداء السعودية للعراق)(4). وإيران وسوريا تبغيان معاقبة أمريكا خوف أن يأتي دورهما في محاولة إسقاط نظاميهما.
ثم جاء البرنامج النووي الإيراني، وتهديدات الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بإزالة إسرائيل من الخارطة، الأمر الذي زاد النار اشتعالاً، وأدخل إسرائيل على خط المواجهة ومعها تأييد العالم الغربي، وبالضرورة السعودية وأخواتها الخليجيات حليفات استراتيجية لأمريكا، فلا بد وأن تنفذ الأوامر الأمريكية في تصعيد العداء لإيران. وليس هناك أفضل من استخدام الدين والمذهب في تعبئة الجماهير. لذلك لجأت السعودية إلى إثارة الفتنة الطائفية بمنتهى الصلافة والوقاحة وبشكل غير مسبوق، ولأسباب عديدة، فهي من جهة تعرف أن وجود نظامها القبلي الدكتاتوري المطلق لا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين حيث العولمة، وصعود الحداثة والحضارة والديمقراطية، ودور الشعوب في تقرير مصيرها. لذلك وكما أكدنا في مقالات أخرى، لم تجد السعودية وسيلة أفضل من الشحن الطائفي وتخويف شعبها من البعبع الشيعي والتوسع الإيراني الموهوم. وللمزيد من التصعيد، قامت السعودية وبدفع ودعم من أمريكا بشن حرب عبثية إجرامية على الشعب اليمني الفقير، بذريعة بائسة وهي حماية عروبة اليمن، وأطلقت العنان لمشايخ الوهابية لإعلانها بمنتهى الصراحة والقبح أنها حرب بين السنة والشيعة، بين العرب السنة وإيران الشيعية الصفوية، وهذا يعني حماية اليمن من شعبها العربي الأصيل، كما هو معروف، بمثل ما دفعوا صدام حسين لشن حرب على إيران بذريعة حماية البوابة الشرقية للأمة العربية من الفرس المجوس، وأسموها حرب القادسية الثانية!!ّ
وراحت وسائل الإعلام السعودية تروج الأكاذيب مثل، أن إيران تريد غلق باب المندب، وتسيطر على اليمن وتلغي عروبته، وأن إيران تتدخل في شؤون الشعوب العربية للسيطرة عليها..الى آخر التخاريف. ومع الأسف الشديد، انطلت هذه الأكاذيب حتى على بعض الناس الطيبين. فلو أرادت إيران غلق الممرات المائية الدولية لأغلقت مضيق هرمز وهو ضمن مياهها الإقليمية وعلى حدودها. ولكن الغرض من هذه الكذبة الغبية هو لتبرير الحرب على الشعب اليميني الفقير، ولتصعيد الصراعات الطائفية في المنطقة، التي تأمل منها السعودية إبقاء تسلطها على الشعب السعودي، وإبعاد الأنظار عن مشاكلها الداخلية، وصراعاتها العائلية التي تهدد النظام بالزوال.
فإذا كانت إيران تسعى ليكون لها نفوذ في البلاد العربية، فهذه السياسية تتبعها جميع الحكومات في العالم، وهذه إسرائيل تتجسس حتى على أمريكا، وأمريكا بدورها تتجسس على حليفاتها الدول الأوربية. فالمشكلة ليست في محاولة إيران لكسب النفوذ في البلاد العربية، بل المشكلة والعيب في تلك الحكومات التي تسمح لها بهذا النفوذ، إذ كما قال مارتن لوثر كنغ (لن يستطيع أحد أن يركب ظهرك إلا إذا كنت منحنياً).
وإنصافاً للتاريخ، نقول: إذا كانت إيران تتدخل في البلاد العربية، فتدخلها غالباً في صالح هذه الشعوب، إذ ساعدت إيران الشعب العراقي في حربه على داعش، وساعدت الشعب الفلسطيني واللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي، و وقفت بجانب بشار الأسد لأن البديل عنه هو حكم القاعدة وفروعها مثل جبهة النصرة وداعش، أما مساعدتها للزيديين وأنصار الله في اليمن فلم تتجاوز الدعم السياسي والاعلامي وربما المالي، وأين منها هذه الحرب المدمرة التي تشنها السعودية وعشر دول عربية أخرى، وبدعم لوجستي واستخباراتي وأسلحة متطورة من أمريكا على الشعب اليمني الفقير، الحرب الجنونية التي دمرت المدارس والمستشفيات ومخازن الأطعمة، وبيوت الناس على رؤسهم، وفرض الحصار البحري والجوي والأرضي على هذا الشعب المسكين؟
ولكن للتاريخ منطقه الخاص الذي لا يمكن أن يفهمه هؤلاء البدو الأجلاف، فلجميع الأحداث التاريخية عواقب ونتائج غير مقصودة وغير محسوية إذ سترتد سهامهم إلى نحرهم. فكما أدت الحرب التي شنها صدام حسين على إيران إلى سقوطه في مزبلة التاريخ، كذلك ستكون نهاية آل سعود في حربهم على اليمن.
خلاصة القول، نعم سبب عداء العرب لإيران، وحتى العراق، هو سياسي بالدرجة الأولى، ولكن العداء الطائفي كان موجوداً عبر التاريخ وحتى في فترات التوافق السياسي بين مد وجزر. والتعصب الطائفي أججته العقيدة الوهابية الفاشية التكفيرية الشريرة التي اعتبرت كل من لا يفكر مثلها فهو كافر أو مشرك يجب قتله. والسعودية الوهابية بدأت بقتل الشيعة منذ أوائل القرن التاسع عشر. وفي عصرنا الراهن، تفيد الدراسات الأمريكية أن السعودية الوهابية صرفت خلال الثلاثين سنة الماضية نحو مائة مليار دولار على نشر العقيدة الوهابية والتطرف الديني في العالم، والسعودية هي التي قامت بتأسيس وتمويل وتسليح جميع المنظمات الإرهابية في العالم ابتداءً بطالبان ومروراً بالقاعدة وجبهة النصرة وداعش، وبكو حرام في نايجيريا ومحاكم الشباب في الصومال. هذه التنظيمات الإرهابية التي أمعنت في قتل الأبرياء في العالم وتدمير المعالم الحضارية في العراق وسوريا بمنتهى الوحشية والهمجية. ولا يمكن لأمريكا والحكومات الغربية بمؤسساتها الاستخباراتية العملاقة أن لا تعرف هذه الحقيقة، ولكنها تغض الطرف عن جرائم السعودية وقطر لأنها هي الأخرى مستفيدة من هذا الإرهاب في ضرب الحكومات التي ترفض الخضوع لإرادتها. ولذلك توظف السعودية الطائفية لأغراضها السياسية، والطائفية كأية عاطفة كامنة في لاوعي الإنسان، يمكن تفعيلها وتوظيفها لأغراض سياسية. وكما كتب المفكر اللبناني إلياس فرحات:المذهبية بدعة سياسية(5).
والجدير بالذكر أنه حتى نائب الرئيس الأمريكي أعترف في محاضرة له عن دور السعودية والدول الخليجية وتركيا في دعم المنظمات الإرهابية.(6)
وختاماً، لا أدري لماذا تتهالك الحكومة العراقية على فتح السفارة السعودية في بغداد، فهذه السفارة إن تم فتحها فستكون وكراً للتجسس، والمزيد من التآمر والتخريب والخبث وإثارة الفتن الطائفية. لذلك فغيابها أفضل من حضورها.