تداول الفيس بوك ساخرا صورة سيدة تعمل فى مكتب للشهر العقارى، كانت تتحدث فى التليفون وأمامها طبق من الكوسة تقوم بتقطيعه فى أجواء المكتب المتهالك الكئيب، ويبدو من الصورة ملفات ملقاة على الأرض أو على الأقل تحت طبق الكوسة الذى يجهز من أجل وجبة الغداء فى البيت بعد أن تعود!
فى البدء، من النظرة الأولى، ضحكت مثل آلاف رأوا الصورة وضحكوا ولعنوا وقالوا وعلقوا، ثم من النظرة الثانية غضبت على حالنا الذى وصل إلى رثاء على الأمل فى أى إصلاح إدارى، بعد قليل بدأت أفكر فى أن الصورة ـ نفس المشهد تماما ـ رأيتها بدلا من المرة مائة مرة، فى كل زيارة أقوم بها لمصلحة حكومية من أجل إنجاز ورقة مهمة، الصورة إذن مكررة فلماذا نندهش من لقطة عبرنا عليها عبر سنوات طويلة وبعيدة حتى أصبحت جزءا طبيعيا من تعاملاتنا فى المكاتب الحكومية، غير ذلك استثناء مدهش يمكن أن نحكى عنه لأصحابنا.
لكننى الآن أكتب هذا المقال وأمامى صورة أخرى لمذيعة التقارير والقصص الصحفية فى محطة أون تى فى، وهى تصور قصتها المصورة بميكروفون فى يد وتحمل طفلها على يدها الأخرى، وعلى الصورة على مواقع التواصل بعض من السخرية ثم كثير من التشجيع لهذه الأم السيدة المصرية المكافحة التى لم تجد مكانا لطفلها أثناء وقت عملها ففعلت المستحيل وحملته معها!
بعد بعض الهدوء والتفكير، لا فرق بين الصورة الأولى لسيدة الشهر العقارى والصورة الثانية لسيدة التليفزيون، كلتاهما مسؤولة وتكافح من أجل عائلة، والاثنتان لو وجدتا من يدافع عن حقهما فى وظيفة لها ظروف أكثر آدمية لكونهما سيدتين لفعلتا والتزمتا بالقانون الذى يمنع الأولى من تقطيع الخضار على مكتب الحكومة ويمنع الثانية من حمل طفلها أثناء تأدية مهمتها الإعلامية!
لا أقر موقف الاثنتين، ولا أنا موافق على أنهما فعلتا الصواب، ولا أحب أن تجد المرأة المصرية المهمومة بظروف أكل العيش نفسها فى موقع سخرية ومساءلة ومحاسبة، ولا أنا مع تكريم إحداهما، الاثنتان على خطأ، لكن السؤال ماذا فعلنا لكى نحفظ كرامة المرأة حين خرجت إلى العمل، ماذا وفرنا من ظروف مناسبة لها تتناسب مع كونها مسؤولة عن بيت وأطفال، وسوف تعمل من أجل مرتب يساهم فى المعيشة الصعبة ويخفف الظروف المادية للعائلة من أجل تعليم الأطفال وعلاجهم وملابسهم وطعامهم، ثم سوف تذهب إلى البيت منتصف النهار لكى تكنس وتمسح وتطبخ وتربى وتذاكر لأطفالها؟
إليكم هذه الحقائق المذهلة: ثلاث من كل عشر نساء مسؤولات بطريقة مباشرة عن توفير دخل للعائلة، سواء فى وجود زوجها أو وفاته أو طلاقها، ست من كل عشر نساء يشاركن فى مصروفات البيت مع أزواجهن، ثلاث من كل عشر فتيات يعملن من أجل المشاركة فى مصروفات البيت مع عائلاتهن، ثلاث من كل عشر فتيات يعملن لتوفير مصروفات زواجهن!
صورة المرأة التى سجلها شريط السينما فى الفيلم الاجتماعى (مراتى مدير عام)، إنتاج الستينيات، بطولة العبقرية شادية والراحل الجميل صلاح ذو الفقار، هذه السيدة التى تعيش فى فيللا وتصل فى ظروف سهلة إلى منصب مدير عام، صورة سينمائية فقط، لا أعتقد أنها خرجت إلى الواقع إلا نادرا جدا، لكن الحقيقة أن المرأة ـ والفتاة أيضا ـ فى المدن وفى القرى، تعانى بمرارة فى بيتها وبالتالى فى عملها، لا هى تعمل فى ظروف إنسانية تحترم كونها امرأة والظروف التى دفعتها للعمل، ولا كل السلسلة المؤدية إلى العمل تحمل لها قدرا من الإنسانية والأمل والراحة، كلها ظروف تدفعها دفعا إلى (التوحش) بمعنى الكلمة، والدفاع عن نفسها ضد كل المواقف والظروف والاحتمالات التى تواجهها، كما أنها ـ لا تلوموها إذًا ولا ترفعوا راية العنف ضدها ـ لا تستطيع أن تعود لتجلس معززة مكرمة فى بيتها، اسألوا النساء العاملات كم فى المائة منهن على استعداد لأن يعدن (ست بيت) مع توفير ما يلزم لهن من حياة كريمة، خاصة إذا غاب الزوج أو الأب الذى ينفق، وسوف نعرف أن طموح المرأة فى العمل تراجع فى مقابل إحساسها بعدم الأمان!
ليس مهما إذًا أن نكرم فلانة أو نسخر من فلانة، امرأتان ظرفهما وظروفهما واحدة وواضحة ومحددة، وتكريم امرأة لن يكفى لتكريم كل النساء والفتيات، التكريم هو أن تدخل المرأة تحت إنجاز 2030، فتعمل فى ظروف تضيف لها، تجعلها تبدع وتنجز وتحلم وتأمل وتدخل فى نسيج المجتمع.
وأنهى بقصة حكاها لى صديق من إحدى ضواحى القاهرة، كانت هناك سيدة فلاحة فى منتصف العمر تأتى لهم كل يوم بالحليب الطازج فى السابعة صباحا، وفى يوم تأخرت السيدة إلى التاسعة، وعندما فتحوا لها الباب قدمت لهم الحليب، وكانت فى حالة إعياء تام وفى يدها (مشنة قش)، فيها شىء يتحرك، عندما سألوها عن سر تأخرها وإرهاقها، فتحت المشنة وهى تضحك بملامح هزيلة وقالت: معلهش.. النهارده الصبح حسيت بوجع، جبت الداية ولدتنى، جبت إسماعيل عقبال عندكم، وقلت آجى أوزع اللبن علشان ما يقطعش!
إنها الست المصرية، التى تنتظر قرارات تحسم ظروف حياتها الصعبة وتوفر لها حياة أكثر بساطة.
نقلا عن المصرى اليوم