ما أخذته إسرائيل بالقوة لم تسترده مصر إلا بالقوة والعرق والتضحيات. على أرض الفيروز سطر الجنود والضباط والبدو المصريون قصص بطولة حقيقية، روت فيها دماؤهم رمال سيناء حتى طهرتها من الاحتلال الغاشم، وقفوا صامدين أمام أحدث الأسلحة الإلكترونية فى العالم، والدعم الأمريكى غير المحدود، حتى أكملت السياسة ما لم تكمله الحرب، وتم تحرير أرض سيناء كاملة باستثناء طابا التى أعادها التحكيم الدولى إلى مصر عام 1989.. 33 عاماً مرت على تحرير سيناء فى 25 أبريل 1982، وخلال العقود الثلاثة الماضية غابت التنمية بشدة رغم احتياج المنطقة لها، ومع غياب التنمية والإهمال اللذين سيطرا على المشهد لم يكن غريباً أن تنفجر موجة عاتية من الإرهاب راحت تضرب بقوة وعنف شديدين، فاستباحت الدماء، وجزت الرؤوس، وروعت الآمنين، وعاثت فى الأرض فساداً، مركزة جهودها فى التخلص من أحفاد جنود التحرير سواء من كانوا فى صفوف القوات المسلحة، أو مجاهدى سيناء الذين بذلوا الغالى والنفيس فى مقابل تحرير أراضيهم.
«الوطن» تفتح دفتر ملف سيناء فى ذكرى تحريرها، ترصد حكايات مفقودى الحرب، وتلتقى بالأبطال الحقيقيين من أبناء القوات المسلحة وبدو سيناء، وتحاور أحد الذين شهدوا عملية تسليم الأرض قبل أكثر من 30 عاماً، كما تلقى الضوء على معاناة الأهالى هناك بعد غزو الإرهاب لمدنهم ومحاولته تدميرها، بإصرار لا ينافسه فيه سوى العدو الذى يرابط على الحدود.
زوجة عفيفى تحمل صورته
أكثر من أربعين عاماً مرت على حرب السادس من أكتوبر، خلالها ظلت السيدة الستينية «فاطمة» جالسة فى انتظار زوجها الغائب، ظناً منها أنه سيعود يوماً ما، رغم ورقة حكومية تعتبره من شهداء حرب أكتوبر صدرت للسيدة سنة 1978.
تعيش فاطمة أحمد إبراهيم، زوجة محمد صفوت عفيفى، أحد مفقودى حرب السادس من أكتوبر، وحيدة مع ابنتها تربيها، فتاة لم تر والدها قط.
تروى «فاطمة» أن زوجها كان يعمل فى رئاسة الجمهورية بعد انتهاء فترة تجنيده، لكن تم استدعاؤه قبل الحرب بعدة أشهر، لأنه كان على قوة الاحتياط فى الجيش، قطعت فترة تجنيده الثانية إجازات تفصل كل منها 45 يوماً، ينتقل فيها من وحدته فى السويس إلى منزله الصغير، حيث تعيش زوجته وحيدة، «آخر مرة شوفته كنت حامل فى بنتى، كانت فى شهر سبتمبر 1973، قبل شهر من الحرب».
اللحظة الأخيرة التى رأت فيها «فاطمة» زوجها، تصفها قائلة: «عمل لنا شاى بإيده وصينية الشاى لسه محطوطة، وقبل ما نشرب استدعوه قام لبس وخد بعضه ومشى، متلهوج كأنه كان عارف إن ده أهم وقت الجيش يستعديه فيه وكأنه حاسس بالحرب».
أثناء سريان المعركة، التى تنقل الإذاعة أخبارها بين الحين والحين، كان «محمد»، المجند فى الجيش، يرسل لزوجته «فاطمة» خطابات بخط يده، لا تزال تحتفظ بها ولم تطلع أحداً عليها، أوصاها فى أحدها بأن تنتبه لحالها: «قالى فى الجواب خلى بالك من نفسك عشان خايف ع الحمل والجنين وخايف عليا».
زوجة «عفيفى»: قلت لأمى لو عملت إعلان وراثة يبقى اعترفت إن «محمد» جراله حاجة.. وأنا عايشة على أمل إنه يرجع بالسلامة
قامت الحرب، وانقطعت أخبار «محمد»، حتى انقضى شهر رمضان (الذى شهد الحرب)، لتفاجأ «فاطمة» ببابها يُطرق، «لما فتحت لقيت ظابط من القوات المسلحة، خفت يقول لى محمد استشهد، وقلبى وقع، لكنى اتفاجئت لما قال إنه مفيش حاجة وحشة نعرفها عن محمد، لكنه متغيب ومش عارفين معلومات عنه، وقال إن أى حاجة هنيجى لحد هنا نقولك وانتبهى لنفسك»، تضيف السيدة الستينية، أنها لم تترك منذ ذلك الوقت مكاناً إلا وسألت فيه عن زوجها المتغيب، «حتى أخويا سافر السويس بعد فترة الحصار ما خلصت يمكن نلاقى لمحمد أى أثر، ومن يومها وأنا قاعدة على أمل كل ما الباب يخبط يتهيأ لى إنه هو، وكل ما ألاقى حاجة من حاجته فى الشقة أفضل أعيط».
المفقودون فى الحرب: غائبون عن «العين».. وحاضرون فى «القلب»
فى عام 1978، اعترفت الدولة بمحمد صفوت عفيفى، ضمن شهداء حرب السادس من أكتوبر، ليتحول معاشه من رئاسة الجمهورية إلى القوات المسلحة، لكن «فاطمة» لم تعترف بموت زوجها مثلما فعلت الحكومة، وعندما قالت أم فاطمة لها إنه يتحتم عليها البدء فى إجراءات إعلان الوراثة، رفضت الزوجة ذلك، فتذكر: «قلت لأمى لو عملت إعلان وراثة يبقى اعترفت إن محمد جراله حاجة وأنا عايشة على أمل أنه يرجع بالسلامة».
لا ترى الأرملة بحسب ما تصفها الدولة أن عمرها الذى انقضى وهى متعلقة بزوجها (الشهيد بحسب قوات الجيش) قد انقضى هباءً، حيث تقول: «الراجل يابنى ربنا يديك العمر الطويل لما يبقى أمير ومؤدب بيبقى عند الست بتاعته حاجة تانية خالص، الإنسان المحترم من النادر تلاقيه دلوقتى، كان لا بيشتم ولا يقل أدبه ولا يقول كلمة كدة ولا كدة.. إنسان محترم ربنا يحتسبه عنده شهيد إن شاء الله».
لم تفقد «فاطمة» الأمل كما تقول رغم مرور اثنتين وأربعين سنة على غياب زوجها، إذ تقول: «لسه الأمل عايش جوايا، لسه عايش إنى ألاقى حتى جثته، وأدفنه بإيدى لدرجة إنهم لما لاقوا عضم جندى من أيام الحرب وهما بيحفروا القناة الجديدة افتكرت إنها جثة محمد لحد ما عرفت إنهم اتعرفوا على صاحب الجثة».
طيلة الاثنين وأربعين عاماً، حرصت «فاطمة» على المدح فى زوجها أمام «دعاء» التى صارت تكبر عاماً بعد عام فكانت تحكى لها: «بابا بطل، ولازم لما تكبرى تقولى إنه شهيد وتبقى فخورة علشان الناس هتحسدك عليه، عارفة شهيد يعنى إيه يعنى لو مكنش بابا واللى زيه ماتوا كان العدو قتلنا كلنا».
شقيق أحد المفقودين فى الحرب: «ما عملناش عزا ولا جنازة ومش هنعمل إلا لما ندفن جثته»
لم تر «دعاء» أباها سوى فى الصور الباقية بالأبيض والأسود، لكنها تقول إن إحساسها بـ«الفخر» بأن والدها من أبطال حرب أكتوبر، عوّضها عن «نقص فقدان الأب» كما تقول، فتقول: «ربنا إدانى أعظم مكانة فى الدنيا إنى بنت شهيد ماعرفش شكله ولا صورة هتجيب شكله الحقيقى بس أنا فى كل وقت حاسة إن بابا جنبى، فى الفرح جنبى، وفى الشدة جنبى».
بمكان مجهول قفر فى سيناء، تتخلله جبال وعرة تصهرها أشعة الشمس الحارقة، تتراكم حبات الرمال فوق بعضها البعض، لتضم فى جنباتها رفات شهيد سقط برصاص العدو، لم يعثر قادته على جثته فاعتبروه مفقوداً، وتمر الأيام والسنون ويحيا أقاربه وأصدقاؤه على أمل أن يعثروا على رفاته أو أن يعود إليهم حياً.
إسماعيل عبدالحميد، من مدينة كرداسة شقيق الجندى فيصل عبدالحميد حسن عبدالحى، أحد المفقودين فى حرب الاستنزاف، يقول «إسماعيل» إنه دخل الجيش مجنداً فى سنة 1966، وأنه شارك فى حرب اليمن بمجرد تجنيده، وبعد هزيمة 1967 عاد إلى مصر مع القوات التى عادت عقب النكسة من اليمن، وشارك بقوة فى حرب الاستنزاف التى أعلن عنها جمال عبدالناصر.
تذرف عيناه دموعاً وهو يضيف متحدثاً عن أخيه الذى كان ضمن فرق الاستطلاع، التى كانت من مهامها تنفيذ عمليات نوعية خلف خطوط العدو، فقد فى إحداها فى سنة 1969، حاولت الأسرة أن تعرف من أصدقاء «فيصل» أى معلومة عنه لكن لم نجد عند أى منهم جواباً، إذ كان كل واحد منهم مكلفاً بمهمة محددة ينفذها ثم يرجع فعادوا جميعاً باستثناء «فيصل»، الذى أشاد قادته بشجاعته.
ويوضح شقيق «فيصل» قائلاً: «كان واخد أجازة قبل المهمة المشئومة اللى راح فيها ومارجعشى، وقضاها معانا فى البيت وقبل ما يرجع تانى على الجيش كان بيتعامل معانا على أنه بيودعنا الوداع الأخير، وفعلاً راح وما شوفناهوش من يومها».
بنبرة صوت قوية، يقول شقيق الجندى المتغيب: «لحد النهارده ولا عملنا عزا ولا جنازة علشان ماكناش متأكدين إنه مات، وكنا على أمل إنه يرجع فى أى لحظة، وأمه كانت عايشة على الأمل ده على الرغم من أن المرض شد عليها بعد ما عرفت أنه مفقود فى العملية اللى عملها فى سينا».
وفقاً لما يرويه «إسماعيل»، فإن شقيقه «فيصل» كان فى الخامسة والعشرين من عمره وقتما فُقد فى سيناء، إذ كان من مواليد سنة 1945، «كان خاطب بنت خالته وكان المفروض يتجوز أول ما يخلص خدمته فى الجيش، بس ربنا أراد إن الجواز ما يتمش وإن فيصل يروح ما يرجعش».
لوقت طويل، لم تعرف الأسرة أخباراً عن ابنهم «فيصل» المجند، لذا سألوا عليه فى وزارة الدفاع فى القاهرة بعد أن تأخرت عودته من الجيش، «يومها لما رحنا وزارة الدفاع اتصلوا بقيادة وحدته العسكرية، فبلغوا الوزارة إن فيصل مفقود من فترة فى عملية من العمليات العسكرية اللى نفذتها وحدته فى الضفة الشرقية من القنال، وإن الوحدة بعتت عساكر يعرفوا أخباره أو يدوروا على رفاته لكنهم مالقوش أى شىء».
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.