في الأسبوع الماضي كنت في زيارة عمل الى دبي، وكل مرة اذهب الى دبي تبهرني بالتغيير للافضل، حدائق عامة جديدة شواطيء جديدة، طرقات جديدة، طرقات وحدائق نظيفة ولامعة وكأنها خرجت لتوها من الورشة، محطات قطار سريعة، ترام جديد، أناس يحترمون قواعد المرور، أسواق عامرة بالمواطنين والمقيمين والسياح، والكل يحترم الكل، لم اشاهد تحرش جنسي ولم اشاهد شباب يتسكع، ولست ادري لماذا لا يتخذ العرب والمسلمون دبي كنموذج حضاري للقرن الواحد والعشرين، يتعلمون منها بدون عنطزة وبدون حساسية، وانا شديد الإعجاب بدبي التي أصبحت موقع حضاري على مستوى العالم تنافس سنغافورة وهونج كونج وبانكوك ولندن وباريس وتفوقت من زمان على القاهرة وبيروت وأصبحت مركز جذب ليس فقط على المستوى الإقليمي ولكن على المستوى العالمي، فهناك اوروبيون وآسيويون يقيمون بصفة دائمة في دبي، وهل تصدق ان دبي أصبحت تجذب سياحا اكثر من مصر بلد حضارة السبعة آلاف عام!!
وفي نفس الوقت أخذت اتساءل لماذا نجحت دبي وسط عالم من الدول الفاشلة وأشباه الدول، لماذا نجحت دبي وفشل العراق وفشلت سوريا وفشل اليمن وفشلت الصومال وفشلت ليبيا، ومصر كانت في طريقها للفشل لولا ان ربنا سترها!!
وطبعا المقارنة بين دبي ودولة مثل مصر هي مقارنة ظالمة، ولكن اذا قارنا مثلا بين ليبيا وبين دبي والإمارات فان المقارنة تكون اكثر معقولية:
دبي لها موقع متميز على الخليج ونقطة وصل بين الشرق الأوسط وآسيا
ليبيا ايضا لها موقع متميز على البحر المتوسط وقريبة من أوروبا، ولها شواطيء طويلة وجميلة.
دبي والإمارات عبارة عن مساحة صحراوية
ليبيا ايضا مساحة صحراوية بل ان مساحتها اكبر من الإمارات
دبي ليس لديها بترول يذكر ولكنها تعتمد على بترول ابو ظبي
ليبيا دولة بترولية وبترولها من النوع الخفيف ذو السعر العالي
دبي والإمارات قريبة من مراكز استهلاك البترول في اسيا
ليبيا قريبة من مراكز استهلاك البترول في أوروبا
دبي والإمارات عدد سكانها قليل بالنسبة للدخل والمساحة
ليبيا ايضا عدد سكانها قليل بالنسبة للدخل والمساحة
دبي بلد عربي إسلامي
ليبيا بلد عربي إسلامي ...
... وكما ترون فهناك تشابه كبير بين المقومات الاقتصادية والبشرية والجغرافية في دبي وليبيا، بل ان ليبيا كانت تسبق دبي والإمارات بكثير وحتى قبل ظهور البترول نظرا لتواصلها مع أوروبا عن طريق إيطاليا، وتعالوا ننظر ونقارن بوضع دبي وليبيا على ارض الواقع اليوم:
دبي كما ذكرت أصبحت مركز جذب سياحي عالمي
ليبيا أصبحت مركز طرد وشهريا يهرب آلاف المهاجرين في قوارب الموت من ليبيا
دبي أصبحت مركز جذب للاستثمارات العالمية
ليبيا أصبحت تطفش استثمارات الليبيين أنفسهم (ناهيك عن الاستثمارات الأجنبية)
دبي أصبحت بلدا يضرب به المثل في الأمن والامان لكل الجنسيات
ليبيا أصبحت بلد يضرب به المثل في خطف الرهائن الأجانب
دبي تحتضن وتحترم الأجانب
ليبيا تذبح وتقتل الأجانب
دبي (والحمد لله) لم تشهد حادث ارهابي واحد في منطقة تذخر بالعمليات الإرهابية اليومية
ليبيا أصبحت مركزا للارهاب فهناك داعش والقاعدة وغيرهم
دبي والإمارات بلد واحدة تحت قيادة واحدة وجيش واحد
ليبيا أصبحت بلد لا يحكمها احد وتحت حكم عدة عصابات وجيش ممزق
دبي والإمارات اصبح لديها رابع اكبر احتياطي نقدي في العالم بعد الصين والنرويج والسعودية
ليبيا أصبحت دولة مفلسة
والقائمة طويلة، وباختصار شديد دبي والإمارات دولة محترمة بكل معنى الكلمة وليبيا أصبحت دولة فاشلة بكل معنى الكلمة ايضا
فلماذا حدث ذلك رغم ان المقومات كما ذكرنا واحدة تقريبا؟
هناك سببان:
أولهما يتعلق بنظام الحكم
ثانيهما يتعلق بالسكان
فيما يتعلق بنظام الحكم:
ليبيا كانت تحت حكم دكتاتوري مجنون من عام ١٩٦٩ وحتى سقوط القذافي ومقتله البشع في أكتوبر عام ٢٠١١، بعد ان استمر في الحكم لأكثر من ٤٠ عاما، وبعد مصرعه انقسم الثوار وأصبحوا مجرد مجموعة عصابات،
اما في الإمارات ودبي وبالرغم من انه لا يدعي احد انها تحكم حكم ديموقراطي ولكنه حكم عائلي يحقق رفاهية المواطنين ولا يدخل في مغامرات حول العالم مثل نظام القذافي، واستغل حكام الإمارات فائض الدخول البترولية أفضل استغلال ولم يسيء استخدامها مثل حكام مجانين أمثال قذافي ليبيا وصدام العراق.
...
في ليبيا بعد الثورة وبعد مقتل القذافي، كان هناك فراغا سياسيا لم يجد من يملؤه سوى مجموعة من العصابات في معظمها يرتدون عباءة الدين، اما في الإمارات ودبي فتداول الحكم قد انتقل بسلاسة من مؤسس الدولة الشيخ زايد ال نهيان الى ولده خليفة وفي دبي انتقل الحكم ايضا بسلاسة من الشيخ راشد ال مكتوم الى ولده محمد بن راشد باعث نهضة دبي الحديثة.
حكام ليبيا دخلوا في عداء غير مبرر مع الغرب لذلك ابتعدوا عن الحضارة الحديثة رغم المال الوفير، اما حكام دبي والإمارات فقد قرروا منذ اليوم الاول في الاعتماد على خبراء الغرب من إنجلترا وأمريكا وألمانيا وغيرها ، فعلوا ذلك بكل ثقة وبدون العنطزة العربية المعهودة وأعطوا العيش لخبازه لذلك كانت النتيجة مبهرة،
اما حكام ليبيا فقد أخذتهم العزة بالاثم وراحوا يغردون بوهم القومية العربية والتي انتهت ودفنت وشبعت موت منذ هزيمة ١٩٦٧ المخجلة، وكان مجنون ليبيا وحتى قبل مقتله يعيش في عالم من وهم العظمة، وأدى هذا الى ان ضيع نفسه وعائلته وشعبه.
اما حكام الإمارات ودبي فقد تفرغوا للتنمية وآمنوا تماما بان "التنمية هي الحل" ولم يقعوا في فخ القومية العربية او فخ "الاسلام هو الحل"، ونجحوا في ان يجعلوا من الدين مجرد شعائر يتم تأديتها في المساجد الفاخرة التي بنوها ولم يتدخل الدين أبدا في طريقة إدارتهم لبلادهم. فنجحوا وكانوا مثالا حقيقيا لفصل الدين عن السياسة والدولة،
....
اما بالنسبة للسكان:
فان الطبيعة البدوية لشعب ليبيا ساعدت في ان يظلوا تحت حكم شخص مجنون لمدة أربعين سنة بدون اعتراض يذكر، وحتى عندما ثاروا بتحريض من الثورات العربية حولهم لم يعرفوا كيف يتقاسموا الحكم وغلبت عليهم الطبيعة البدوية وتفرقوا أحزابا وقبائل تحارب بعضها البعض.
اما بالنسبة لسكان الإمارات ودبي فان الطبيعة التجارية للسكان ساعدتهم في اجتذاب مواطنين لأكثر من ١٠٠ دولة يعيشون معا في ظل احترام القانون، حيث يطبق القانون على المواطن وعلى الأجنبي، ومن يريد ان يسهر في الملهى الليلي فهذا متاح ومن يريد ان يسهر في المسجد لصلاة الفجر فهذا ايضا متاح.
...
نموذج نجاح دبي والإمارات الناصع والمبهر أجدى بان يتبع بدلا من نماذج العراق وسوريا واليمن وليبيا.
ولكن نموذج دبي يتطلب العمل الجاد والتخطيط العلمي والاخلاص للوطن ومحاربة الفساد، ونموذج ليبيا اسهل كثيرا كل ما يتطلبه هو : مدفع كلاشنكوف وحزام ناسف وهتاف "الله اكبر"!!
samybehiri@gmail.com
نقلا عن إيلاف