لا يُلدغ مؤمن من جحر مرتين، لكن المصريين يلدغون من نفس الجحر عدة مرات، تقول النكتة السخيفة والعنصرية «إن صعيديا ضرب على قفاه عشرين مرة متتالية على سهو»، ويبدو أن هذه النكتة خاصة بالمصريين عموما الذين يقعون دائما فى نفس الخطأ، وتضيع أرواحهم وأموالهم بطريقة متكررة، دون أن يعتبروا مما حدث معهم سابقا أو يحذروا منه.
منذ أيام أعلن رجل مجهول عن إنشاء دولة وهمية، وعن حاجته إلى مواطنين لدولته غير الموجودة أصلا، فسارع عدد غير قليل من المصريين بإعلان رغبتهم فى الهجرة إليها، ومنذ عامين اندفع المصريون خصوصا الأقباط إلى الهجرة إلى جورجيا بعد أن تداولت معلومات عن سهولة الحصول على جنسيتها مقابل تحويل مبلغ صغير لا يتجاوز 10 آلاف دولار، وسافر عدد غير قليل بعضهم باع منزله وأرضه أو استغنى عن تحويشة عمره، وآخرون اقترضوا من البنوك، وهناك فوجئوا بأنهم اشتروا الوهم وضاعت أموالهم ولم يحصلوا على الجنسية الجورجية. ومنذ أسبوع ضبطت أجهزة الأمن رجلا، يدعى المستريح، بتهمة توظيف الأموال بعد أن استولى على أكثر من 50 مليون جنيه من الصعايدة، بدعوى استثمارها لهم ومقابل ربح يصل إلى 12%، أما مثيله فى المنوفية فقد استولى على 20 مليون جنيه فقط، بينما ارتفع الرقم عند «مستريح طنطا» إلى 50 مليونا.
هؤلاء الذين اندفعوا لمنح أموالهم «للمستريحين» مقابل عائد «مستريح» نسوا أو تناسوا ما حدث فى التسعينيات عندما ظهرت شركات توظيف أموال تحمل أسماء إسلامية مثل «الريان» و«الهدى» و«الهلال»، وجمعت المليارات ولم تستطع الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين الذين ضاعت أموالهم وأحلامهم.
وفى الآونة الأخيرة تداولت الصحف وقائع عن انهيارات منازل على عدد من الرجال وهم يحفرون داخلها بحثا عن الآثار، مات بعضهم وأصيب عدد منهم، ولكن هذا لم يمنع آخرين من الاستمرار فى الحفر فى منازلهم وأراضيهم وفى الصحراء والجبال القريبة من قراهم تحت وهم أن كل أراضى الصعيد مدفون تحتها كنوز الفراعنة وتماثيلهم، ورغم أن معظم المنقبين ضاع جهدهم وأموالهم وأحيانا أرواحهم هباء، ولم يجدوا شيئا، فإن عمليات الحفر والتنقيب ما زالت مستمرة.
وقريبا من هذا ما حدث منذ سنوات عندما اجتاحت المجتمع حمى البحث عن «الزيبق» الأحمر، وتسربت الأموال التى استولى عليها النصابون والدجالون والسحرة، بعد أن أوهموا الضحايا بقدرتهم على استخراج «الزيبق» الذى يحتفظ به الفراعنة فى مقابرهم، وبالتحديد داخل مومياوات الملوك والأمراء والكهنة، وأقنعوهم بأن «الزيبق» يستخدم فى تسخير الجان الذين يلبون طلبات من يملكه، مهما كانت صعوبتها، ولذلك يباع الجرام منه بملايين الدولارات.
لقد زاد فى الآونة الأخيرة عدد الدجالين والمشعوذين، وأصبحت البرامج التى تتحدث عن الجان وإخراجه من جسم الإنسان هى الأكثر مشاهدة تحت وهم الشفاء من الأمراض أو فك عقدة العنوسة أو الإنجاب، ورغم عدد القضايا الكثيرة التى ضبط فيها مشعوذون بتهمة النصب والاحتيال فإن سوقهم فى ازدهار وزبائنهم فى ازدياد.
لماذا يجرى المصريون وراء الوهم؟
إذا كانت الرغبة فى الهجرة حتى ولو كانت إلى دولة وهمية وافتراضية سببها انسداد شرايين المستقبل أمام الشباب فما الذى يجعل مواطنا يضحى بأمواله التى تعب فى جمعها من أجل وهم لا يتحقق ويقع فى فخ ضاع فيه غيره؟ هل الرغبة فى الحصول على الثراء السريع تعمى الأبصار؟ أو الحصول على ربح مرتفع دون بذل جهد يغلق العقول؟ أم أن استسهال البحث عن حل لمشكلة اجتماعية معقدة يدفع الناس إلى اللجوء للدجل دون اعتبار للأضرار التى أصابت من سبقوهم فى هذا الطريق؟
فى كل الأمثلة السابقة لا يمكن تفسير الأمر بالجهل وحده، لأن وهم الثراء السريع والربح السهل وقع فيه متعلمون، وكان من ضحاياه أساتذة جامعات وقضاة ومهندسون وأطباء.
كما أن عددا غير قليل من ضحايا الدجل والشعوذة من المتعلمين.
ولا يمكن كذلك تحميل هجرة الشباب إلى دولة وهمية فقط على أنهم يئسوا، وبالتالى لن تفرق معهم أن يذهبوا إلى دولة مجهولة أو يلقوا بأنفسهم إلى مراكب الموت.
الأمر أكبر من كل هذا، ونحتاج إلى دراسة الظاهرة، وإلى من يجيب لنا عن السؤال، لماذا يجرى المصريون وراء الوهم؟ ولماذا يُلدغون من نفس الجحر مئة مرة؟