بعد مرور ثمانية عشر عاماً على رحيله، ومائةٌ وأربعةُ أعوام على ميلاده يظل إمام الدعاة ورجل القرآن فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى رمزاً لكبار مفسرى القرآن الكريم فى حياتنا، وداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومدافعاً عن الدين وسنة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أشد المدافعة، ومجدداً من المجددين بحق لهذه الأمة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، فقد كان- رحمه الله- نقطةً منيرة ومشرقة فى ذاكرة الأمة الإسلامية، وعلامة بارزة مضيئة وباقية فى حياتنا ببقاء أعماله وتفسيره لآيات الذكر الحكيم، ومعلماً الناس الخير، وأعظم هذه الخيرات القرآن الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
فقد استطاع الإمام- رحمه الله تعالى- الإبحار فى القرآن، فاستخرج كنوزه ودرره ولآلئ معانيه، والتى كانت السبيل إلى هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق والنور، وكان لأسلوبه الممتع والواضح- الذى جمع بين السهولة والعمق فى تفسير القرآن الكريم- عظيمُ الأثر فى توصيل معانى القرآن الكريم لكل الفئات حتى عوام الناس منهم، بل إنه أدخله إلى البيوت ومن قبله القلوب بطريقة سهلة وأسلوب راقٍ ورائق يطلق عليه السهل الممتنع، فقد كان له حضور فى أسلوب الدعوة يُشرك معه جمهوره ويوقظ فيه ملكات التلقى، حتى إنه وصف عطاءه بقوله: «إنه فضل جود لا بذل جهد».
وبرحيله فقدت الأمة خيراً كبيراً وعَلماً من أعلامها، ورجلاً أفنى حياته فى خدمة العلم وكتاب الله تعالى والإسلام عامة، وموت العلماء لا شك أنه مصيبة عظيمة على الأمة خاصة فى وقت يكثر فيه الغث وتعظم الحاجة لمثل هؤلاء العلماء الربانيين، لكنها سنة الله تعالى فى خلقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
وتعظم حاجتنا اليوم لمثل هؤلاء الأعلام فى وقت تخبط فيه الخطاب الدينى وظهر من بين المسلمين من يتطاول على ثوابت الدين وأئمة المسلمين، ومن يحاول أن ينقض التراث العلمى والشرعى لعلماء أفنوا حياتهم وأعمارهم فى خدمة هذا الدين، ليصل إلينا دون شوائب تعكره، ويشكك فيما تركوه من علم نافع لهذه الأمة.
ومع ظهور دعوات تجديد الخطاب الدينى وضرورة صياغته بما يتوافق والعصر الذى نعيش فيه، وعلى رأس تلك الدعوات دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى التى كانت تحمل بين طياتها هذا المطلب الأهم فى كيفية تجديد الخطاب الدينى، دون نيل من الثوابت وإنما استحداث آليات جديدة وأدوات تناسب العصر، فإننا نؤكد على أننا بحاجة إلى منهج هؤلاء العلماء ومنهم منهج الإمام الشعراوى- رحمه الله- حيث اعتمد الشيخ فى أحاديثه على الخطاب القائم على الحوار بين المعلم وتلميذه بلغة مبسطة، وبأسلوب يبعد عن التشدد والمغالاة، والذى لم يدخل معركة إلا وخرج منها منتصراً ليقينه بالله، ولأنه ما دخلها إلا انتصاراً لدين الله لا غيره.
كما اعتبره البعض واحداً من أصحاب المدرسة الاجتماعية فى التفسير والتى ينتمى إليها الإمام المجدد محمد عبده- رحمه الله- والتى جاءت خواطره لتتماشى مع منهج هذه المدرسة من حيث عرضه لتفسير النص القرآنى، وتعامله مع الأسئلة الفقهية المثارة فى عصره، مستعيناً بالسنة النبوية المشرفة، وهذا الاجتهاد المبنى على الأسس العلمية والمنهجية الوسطية هو ذروة سنام التجديد فى الخطاب الدينى الذى يسعى لبيان صحيح الدين للأمة.
كما أنه استطاع فى تفسيره لكتاب الله تعالى أن يزاوج بين العامية والفصحى فى أسلوب يطلق عليه السهل الممتنع ليفاجئ الناس به، فأصبح هذا الباب من العلم يلجه عامة الناس ويبحرون فيه، بعد أن كانوا يعانون من ولوجه فى السابق، بحيث كان أسلوبه فى تفسيره للقرآن من أروع الأساليب وأمتعها، وكان هذا ناتجاً عن ثقافته البلاغية التى مكنته من أسرار الإعجاز البيانى لكتاب الله، فلقد استشعر بُعد الناس عن التفاسير الأخرى فقرّب إليهم القرآن بخواطره فى صورة جذابة سهلة قريبة من العقول والقلوب، لا تفرق بين المنقول والمعقول، والإشارى والإعجازى، واللغوى والفقهى، والعصرى والأثرى.
وقد كان- رحمه الله تعالى- محبًّا للجميع وأحبه الجميع حتى من كانوا يختلفون معه، فهو كغيره من البشر ربما قال برأى لم يوافق آخرين إلا أن هذا لم يفقده احترامهم، بل كان يستحوذ على احترامهم وتقديرهم، لكنها سنة الاختلاف التى قال الله تعالى عنها: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، فالكل لم يختلف على قيمة وقدر الرجل ودوره العظيم فى الدعوة إلى الله وإلى الإسلام وإلى مخاطبة الجميع بلغة عصرية يفهمونها ويفهمون من خلالها أصول دينهم متمثلاً فى ذلك قول الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}.
ونحن اليوم فى ذكرى الشيخ يجب أن نوجه الناس إلى قيمة عظيمة وهى الاحتفاء والتكريم لعلمائنا ومفكرينا، لأن حقهم علينا أن نكرمهم ونقدرهم ونقتبس من علمهم، ونربى أنفسنا وأبناءنا على مبادئهم وقيمهم التى نفتقدها اليوم، ونخرج جيلاً من أبنائنا متشبعاً بهذا المنهج الوسطى ليسد الفجوة التى أحدثها الزمان بموت هؤلاء الأعلام، ويتصدون لكل من أراد أن ينال من الدين سواء كان مفرطاً أو مفرِّطاً فكلاهما لا يقل ضرره على الدين، فالإسلام ذم الطرفين لما فيهما من ضياع للدين.
نقلا عن المصري اليوم