بقلم : سمير مرقص | الاربعاء ١٣ مايو ٢٠١٥ -
٤١:
١٠ م +02:00 EET
صورة أرشيفية
(1)
تكشّف لنا فى محاولتنا فك شفرة البيروقراطية المصرية ثلاث حقائق رئيسية: الحقيقة الأولى هى عراقة الجهاز الإدارى المصرى وارتباطه بالبدايات الحضارية لمصر. وأنه كان أداة أساسية لإدارة شؤون البلاد والعباد. الحقيقة الثانية أن تعرّض مصر لأنظمة حكم متعاقبة وافدة من البطالمة إلى العثمانيين قد ساهم فى تعقد الجهاز البيروقراطى والأكثر تشوهه. التعقد، حيث مع مر العصور وجدنا النظام الإدارى الذى تشكل مع انطلاقة الحضارة المصرية لأسباب تتعلق بضبط النهر فى ربوع البلاد على أسس هرمية وتراتيبية وجندية- يزداد فى تركيبته الهرمية وبنيته التراتيبية وسلوكه وممارساته الجندية. والتشوه، لأن كل حكم وفد إلى مصر جاء ومعه نظامه الاقتصادى المختلف عما سبقه وما لحق به. حيث عرفت مصر أنماطا اقتصادية متناقضةـ كان لها تأثيرها السلبى على النظام الإدارى.
الحقيقة الثالثة أن المواطن المصرى كان يدفع أثمانا كبيرة بسبب صرامة الجهاز الإدارى، ليس فى تحقيق مصالح المواطنين، وإنما فى التخديم على مطامع الحكام. صحيح أننا أشرنا فى مستهل هذه السلسلة إلى دور محمد على فى تأسيسه للنشأة الحديثة للجهاز الإدارى/ الحكومى للدولة. ما يعنى أن هناك طفرة قد طالت البيروقراطية المصرية، وهو أمر صحيح تماما. لكننا أيضا أشرنا إلى كتابات أحمد لطفى السيد وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وبعض الدراسات المتخصصة التى عكست مدى ما لحق «بالميرى» من إعاقات بنيوية لا بد من إدراكها والعمل على تجديد الجهاز الإدارى للدولة.. إلا أنه، وقبل الحديث عن ملامح هذا التجديد، لا بد أن نفهم لماذا تعثر ما تم استحداثه على يد محمد على.
(2)
يجيب عن هذا السؤال مؤرخنا الكبير طارق البشرى فى كتابه: «جهاز الدولة وإدارة الحكم فى مصر المعاصرة» (2015). حيث يشير أولا إلى بدايات التأسيس الجديد للبيروقراطية المصرية بقوله: «أرسيت أسس التنظيم الحديث للدولة فى مصر، فى أيام محمد على، من 1805 إلى 1848». وهو تنظيم «يوحى بالاطلاع على نظم الإدارة الحديثة بمعايير القرن التاسع عشر فى الدول والمجتمعات الأوروبية. وهذا التنظيم/ التقسيم الحديث من حيث تعدد الاختصاصات وتنوعها، ومن حيث تنوع المهن والتخصصات الفنية». بيد أن هذا التأسيس الحديث للجهاز الإدارى المصرى لم يستطع أن يستمر فى انطلاقته الأولى. ويفسر البشرى أسباب ذلك بقوله: إن «تنظيم الدولة هو بناء تاريخى يجرى تشييده بالتراكم عبر السنين، وتتراكم تكويناته، وفقا لموجبات الجغرافيا السياسية، ووفقا للثقافة السائدة وللعادات الحضارية والتنظيمية الشائعة، وحسبما يستجد من ضرورات وتحديات، وما يستحدث، ويحاكى من نماذج التنظيمات، ومن أساليب الإدارة، ومن أنماط العلاقات والمعاملات فى المجتمعات الأخرى، وفى إطار الحدود والضوابط التى تتفتق عنها الأوضاع السياسية وتوازنات العلاقات بين القوى المختلفة فى كل مرحلة تاريخية متميزة من مراحل هذا الزمان الممتد». ويعنى ذلك أن الجهاز الإدارى هو تعبير عن السياق التاريخى وتجسيد للحظة التاريخية.. ووفق هذا التفسير فإن الناظر والمراجع تاريخ مصر الحديث على مدى المائتى سنة الأخيرة يمكنه أن يكتشف بسهولة ويسر مدى العلاقة الوثيقة بين تطور مصر السياسى وجهازها الإدارى. كيف؟
(3)
فى عبارة واضحة ومباشرة، يمكن أن نقول إن التطور السياسى فى مصر يؤثر تأثيرا كبيرا على كفاءة وفعالية وحيوية الجهاز الإدارى فى خدمة مصالح المواطنين: إيجابا وسلبا. ويفسر البشرى ذلك بقصر وضعف وعدم تواصل دورات الحياة البرلمانية السليمة والحرة. مع عدم انقطاع حالة الطوارئ لعقود. وهى حالة تعطى جهاز إدارة الدولة سلطات استثنائية. ودلالة ذلك أن جهاز إدارة الدولة قد عاش فى ظل تطور سياسى متعثر كان له أثر سلبى على مهارات وأساليب الإدارة، ومن ثم المنطق الذى يحكمها. فإذا كانت السلطة مستبدة ينعكس ذلك على ممارسات الجهاز الإدارى، وتصبح كالكيان المغلق والغامض والمنبت الصلة عن واقع المواطنين وتطلعاتهم.
وفى نفس الوقت يحظى بسلطات واسعة تعوق التقدم فى شتى المجالات. ويصبح فى المحصلة مخاصما لأى حركية مدنية/ سياسية، واجتماعية... إلخ. أو فى أحسن الأحوال يفرض عليها أن تكون امتدادا له بصورة أو أخرى. هذا بدلا من أن يكون الجهاز الإدارى- بحسب ميريت غالى وإبراهيم مدكور، فى كتابهما الأداة الحكومية: «المدبر الأول للشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية»، شريطة أن يتماشى الجهاز مع مستجدات الواقع وجديد العالم. وأن يقدم نموذجا ديمقراطيا فى إدارته الداخلية ومراعيا الصالح العام خادما للمواطنين دون تمييز. ومن ثم لا بد من فهم حاجة البيروقراطية المصرية إلى تجديد دائم يتجاوز الإصلاح الشكلى و«التستيف» الورقى. ينطلق من تنقية الجهاز الإدارى من تشوهاته. وقبل ذلك الوعى بأن العالم قد تجاوز هرمية الإدارة، ومركزية القيادة، والصرامة اللائحية الجافة.. إلى شبكية الإدارة ذات التقنيات المتقدمة... ونواصل.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع