انتهت الضجة التى أثارتها تصريحات وزير العدل المستشار محفوظ صابر بإقالته، على خلفية تصريحه بأن «ابن عامل النظافة لا يمكن أن يصبح قاضيًا أو يعمل بمجال القضاء، لأن القاضى لا بد أن يكون قد نشأ فى وسط بيئى واجتماعى مناسب لهذا العمل». وهو التصريح الذى اعتبر تمييزا ضد الفقراء.
فى تقديرى أننا كان ينبغى أن نقدر للرجل صراحته، بدلا من الهجوم عليه. فهو ليس الوحيد الذى صدر عنه مثل هذا الكلام. إذ سبقه إلى الإدلاء بتصريحات مشابهة مستشارون آخرون، من بينهم المستشار أحمد الزند رئيس نادى القضاة، والمستشار أحمد على عبدالرحمن، النائب الأول لرئيس محكمة النقض.
كلام الوزير قد يبدو انتهاكا لمبدأ من مبادئ الدستور المصرى الذى ينص على أن المواطنين متساوون فى الحقوق، ويرفض التمييز بسبب المستوى الاجتماعى، ويؤكد أنه جريمة، ويلزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكالها.
إلا أن التدقيق فى الأمر سيكشف لك أن نيته فى الدعوة إلى إقصاء الفقراء من منصب القاضى كانت رحمة بهم، وليس تمييزا ضدهم. ففى حديثه الذى أثار الأزمة، والذى أذيع فى برنامج البيت بيتك، قال الوزير المقال: «ابن عامل النظافة لو أصبح قاضيًا سيتعرض لأزمات مختلفة، منها الاكتئاب، وحينها لن يستمر فى المهنة».
هنا بيت القصيد. إذ تجاهل من أزعجهم الكلام كشف الوزير المقال لنوع لنادر من الحساسية النفسية، يسببه مقعد القاضى لأبناء الفقراء، وما يترتب عليه من «اكتئاب قضائى» يصيبهم وحدهم، ولا يؤثر، للغرابة، على أبناء الأثرياء. والأهم من هذا كله أن الحساسية الاكتئابية لا تطال أبناء القضاة بالتحديد، لأنهم يتمتعون بمناعة وراثية ضد الاكتئاب، بما يؤهلهم لمناصب القضاء العليا بشكل أفضل بكثير من غيرهم. وربما كان هذا هو السبب وراء صيحة المستشار الزند الشهيرة التى قال فيها: «من يهاجم أبناء القضاة هم الحاقدون والكارهون ممن يرفض تعيينهم، وسيخيب آمالهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة سنة بسنة ولن تكون قوة فى مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها».
الحساسية أيضا كانت المبرر الذى ساقه المستشار أحمد عبدالرحمن فى لقائه مع الصحفى مجدى الجلاد منذ شهور، عندما برر استبعاد الفقراء من مناصب القضاء العليا بقوله إن «القضاء حساس». وهو ما يشى بوضوح لكون المسألة برمتها مشكلة حساسية من الطراز الأول.
إلا أن الدقة تقتضى الاعتراف بأن مجتمعنا يعانى فى حقيقة الأمر من حساسية تظهر عند الأغنياء، ويسببها لهم الفقراء وأبناؤهم، وبخاصة من تمكنوا من تحدى ظروفهم، وحصلوا على مراتب علمية بجدهم واجتهادهم.
هذه الحساسية لا تصيب فقط كبار القضاة من أمثال المستشارين: صابر، والزند، وعبدالرحمن، وإنما صارت مرضا تفشّى فى الدولة، وأصبح أسلوب حياة ومنهجا. بسببها انتحر الشاب عبدالحميد شتا، منذ نحو عشرة أعوام، بعد أن حرم من التعيين فى وظيفة ملحق تجارى بسبب مهنة أبيه. كما أنها كانت تقف خلف المشكلة التى يعانى منها 138 من خريجى كليات الحقوق والشريعة والقانون عينوا فى منصب «معاون نيابة عامة» فى عام 2013، ولم تكتمل إجراءات تعيينهم حتى الآن، لأنهم من أبناء العمال والفلاحين.
إقالة وزير ربما تعتبر خطوة مهمة لإرساء مبادئ المساواة واحترام الدستور. وربما يكون الأهم أن تعالج «حساسية الفقراء» من الجذور.
نقلا عن المصري اليوم