بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-(537)
لست وحدي الذي خرجت من محنة حكم مرسي وجماعته لمصر فاقدا الثقة بأمريكا…ولست وحدي الذي امتلأ غضبا ومرارة إزاء مواقف الإدارة الأمريكية المعادية لانتفاضة المصريين في30يونية 2013 وإصرارها علي النظر إلي انحياز الجيش المصري لإرادة المصريين علي أنه انقلاب عسكري علي سلطة شرعية منتخبة…حتي أنني في عنفوان استيائي من ذلك العناد الأمريكي والتعامي عن رؤية الحقيقة علي الأرض في بلادنا كنت أكرر لكل مسئول سياسي أو إعلامي ألتقيه-سواء كان أمريكيا أو أوروبيا-أن مصر والمصريين بعد خلاصهم من حكم الإخوان عليهم أن يراجعوا بكل حذر ما كان يطلق عليهالعلاقات الاستراتيجيةالتي تربط بلادنا بأمريكا وبعض أقطاب أوروبا الغربية,فهناك علامات استفهام خطيرة تبحث عن إجابات بشأن هذه العلاقات بعد أن ثبت أنها كانت تدار لخدمة مصالح العالم الغربي علي حساب مصالح مصر والمصريين.
ووسط هذا الغضب والتوجس من أمريكا وأعوانها في غرب أوروبا تقبلت بارتياح شديد اقتراب مصر من روسيا والصين لإحياء علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية سابقة,الأمر الذي أرسل رسالة تحذير قوية للغرب مؤداها أن مصر لن تكون تابعا مسلوب الإرادة أو عديم الحيلة وأنها وإن كانت لاتضحي بأصدقاء قدامي فمن حقها أن تعمل علي اكتساب أصدقاء جدد…ورأيت في ذلك التوجه حكمة ملفتة من الإدارة المصرية.
وظلت الأمور تتأرجح فيما يخص الخطاب السياسي الصادر عن مصر من جانب الإدارة الأمريكية, فبينما استمر البيت الأبيض علي عناده وصلفه وعدم اعترافه بإرادة المصريين وإنجازاتهم بعد ثورة 30يونية وتحديهم بالتنكر لخريطة الطريق ولحربهم ضد الإرهاب ولقاء الرئيس الأمريكي لقادة جماعة الإخوان الإرهابية,كنا نجد خطابات أكثر عقلانية وواقعية تصدر عن الكونجرس الأمريكي ووزارة الخارجية والبنتاجون..حتي أنني شككت بعض الوقت أن الرئيس الأمريكي ينزع للتشدد إما لأن فترة رئاسته تقترب من نهايتها وهو ذاهب لا محالة أو لأنه يعوزه السبيل للتراجع عن الإساءة لمصر والمصريين دون إراقة ماء الوجه…وبقيت أتساءل:لكن أين معاهد الدراسات السياسية وأين مراكز صناعة القرار التي تعتمد عليها الإدارة الأمريكية في رسم سياساتها؟…إن التقارير الصادرة عنها تؤكد بوضوح حقيقة ماحدث علي الأرض في مصر وأن مرسي أساء كثيرا للمصريين الذين انتخبوه وأضر بمصالح مصر الاستراتيجية وأساء إلي هويتها حتي انقلب المصريون عليه وعلي حكمه,وأن مايجري حاليا علي أرض مصر هو إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وديني يحظي بتأييد الغالبية العظمي من شعب مصر.
وبينما كانت التكهنات تتجه إلي أن العلاقات المصرية الأمريكية تمر بمرحلة فتور وأن الزيارة الأخيرة للرئيس السيسي إلي روسيا للمشاركة في احتفالات مرور سبعين عاما علي انتصارها علي ألمانيا النازية خير دليل علي تنشيطشهر العسل الذي تمر به العلاقات المصرية الروسية,فوجئت مثل الكثيرين بما حملته الأنباء منذ نحو عشرة أيام من لقاء الرئيس السيسي بالجنرال لويد أوستن قائد القيادة المركزية الأمريكية,حيث صرح السيسي باعتزاز مصر بالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة,مشيرا بكل جوانب هذه العلاقات وداعيا لتعزيزها وتنميتها…أما أوستن من جانبه فأشاد بالنجاحات والخطوات الثابتة التي تخطوها مصر علي صعيد التقدم السياسي والاقتصادي علاوة علي الدور الذي تلعبه مصر نحو قيادة الاعتدال في المنطقة عبر الدعوة إلي خطاب ديني مستنير في مواجهة قوي التطرف والإرهاب,ومؤكدا علي حرص الولايات المتحدة علي العمل مع مصر وتعزيز التعاون معها.
هذا التحول الملفت-وغير المتوقع-والذي جاء من القيادتين المصرية والأمريكية جعلني أعود لأبحث عن أسبابه,حيث وجدت ضالتي المنشودة في ورقة بحثية قدمها إيريك تراجر الباحث الأمريكي بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني إلي جلسة استماع للجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي,وكان عنوان الورقة:مصر…عامان بعد مرسي…والورقة تشمل تحليلا دقيقا من وجهة النظر الأمريكية لما حدث في مصر إبان الإطاحة بحكم محمد مرسي والتغيرات التي طرأت علي الساحتين المصرية والأمريكية منذ ذلك التاريخ, ويهمني أن أسجل بعض المقاطع المهمة التي جاءت في تلك الدراسة لأنها توضح مقدار التغيير الذي تشهده العلاقات المصرية الأمريكية وتفسر مالم يكن متوقعا في لقاء السيسي مع الجنرال أوستن:
00ينبغي أن تكون واشنطن واقعية بشأن قدرتها علي التأثير علي مصر في أن تسلك توجها أكثر ديمقراطية طالما ظلت الحكومة المصرية في صراع مع الإخوان المسلمين…إدارة أوباما حاولت عمل ذلك في أكتوبر2013 عندما امتنعت عن تسليم مصر أكثر من 1.30مليار دولار من المساعدات العسكرية ومشترطة تحقيق تقدم موثوق نحو التحول الديمقراطي,لكن ذلك لم يحقق الهدف منه فحجب المساعدات العسكرية لم يكن له تأثير ملموس علي السياسية الداخلية في مصر وفي الوقت نفسه توترت العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن والقاهرة,مما أدي إلي توقيع مصر اتفاقا لاستيراد أسلحة من فرنسا بقيمة 5.40مليار دولار علاوة علي صفقة أسلحة مبدئية مع روسيا بقيمة 3.50مليار دولار,وفي الوقت نفسه دخلت مصر في شراكة مع الإمارات العربية المتحدة لمهاجمة مواقع الجهاديين في ليبيا دون تنسيق مع واشنطن بل إن مصر رفضت المساعدة الأمريكية في سيناء.
00إدارة أوباما اعترفت بخطئها علي مدار سبعة أشهر -في مارس الماضي-عندما أعلنت أنها ستستأنف تسليم مصر المساعدات العسكرية ولكن لاستيائها المستمر من مسار السياسة الداخلية في مصر أعلنت إنهاء تمويل التدفق النقدي من المساعدات الأمريكية بعد عام2017,ونتيجة لذلك من المرجح أن تظل العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر متوترة,لأنه إذا لم تستطع القاهرة أن تعتمد علي تدفق موثوق للمساعدات النقدية فإنه من المرجح أن تستمر في تحولها لشركاء آخرين للحصول علي الأسلحة بما في ذلك من لايتشاركون بالضرورة مع مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
00إن تأجيج هذا التوتر ليس في مصلحة واشنطن,نظرا لدور مصر باعتبارها شريكا استراتيجيا مهما للولايات المتحدة,حيث حافظت مصر علي معاهدة السلام مع إسرائيل منذ عام1979,وتنسق مع واشنطن حول مجموعة واسعة من الأنشطة الإقليمية,بما في ذلك الدبلوماسية ومحاربة الإرهاب,وتدعم أيضا الجهود الحالية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشامداعش…ويمثل السيسي فرصة كبري بالنسبة لواشنطن لأنه أكثر توافقا بشكل ملحوظ مع مصالح الولايات المتحدة عن الإخوان.
00مما لاشك فيه أن إدارة أوباما محقة في أن تشعر بالقلق إزاء المسار السياسي الداخلي في مصر,وينبغي أن تستخدم علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة السيسي لتشجيع المزيد من التسامح والتعددية السياسية في البلاد,ولكن إذا اشترطت واشنطن أن تكون علاقتها الاستراتيجية مع القاهرة منبية علي أساس التقدم الذي تحرزه مصر نحو الديمقراطية,فإنها لن تحقق الديمقراطية في مصر في الظروف الحالية,وسوف يضر ذلك العلاقة الاستراتيجية الثنائية بين البلدين.
00البنية الإقليمية الحالية تجعل من الضروري أن تستعيد واشنطن علاقاتها مع مصر علي أساس المصالح الاستراتيجية المشتركة,وعلي وجه التحديد ينبغي علي الكونجرس تشجيع إدارة أوباما علي المضي قدما فيالحوار الاستراتيجي الذي طلبته القاهرة منذ أوائل عام2014,وتلك فرصة مهمة لتنسيق الاستراتيجيات بين البلدين.
000أهمية هذه الورقة البحثية أنها تلقي الضوء علي التحولات في السياسة الأمريكية تجاه مصر في الفترة المقبلة وتزيل عنصر المفاجأة غير المتوقعة فيما نشهده من أحداث.
نقلا عن وطنى