جلسنا يومَ ١ يونيو فى بهو كنيسة «المغارة»، مصر القديمة، لنحتفل بيوم تاريخى عالمى مشهود، حدث قبل ألفى عام. اليوم الذى دخلت فيه مصرَ السيدةُ العذراءُ، مريمُ المُطهّرة، حاملةً على يديها طفلّها عيسى المسيح، عليه السلام، هرباً من هيرودس الرومانى، ملك فلسطين آنذاك. مكثت العائلة المقدسة فى مصر أعواماً ثلاثة، باركت كل شبر فيها من رفح إلى أسيوط. ولأنه يومٌ عالمىّ، فقد حضر سفيرُ إيطاليا بالقاهرة، مصطحباً «أوركسترا سيمفونى» من أربعة عازفين إيطاليين، وصوليست أوبرالية ساحرة الصوت، لإحياء هذا العيد التاريخى المهم.
أىُّ أرضٍ سوى أرض مصر الطيبة استقبلت ذاك الوليد الجليل، وأمَّه أطهر نساء العالمين، والقديس يوسف النجار، هرباً من الشرير قاتل الأطفال؟ حماه اللهُ ليكبر ويغدو رسولَ السلام للإنسانية كافة، «يجول يصنع خيراً»، بعدما طوّبه اللُه بالسلام عليه: «يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً». أرضنا الطيبة كانت لتلك العائلة «رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ». جالت فيها سيدةُ الفضيلة فتفجّرت تحت قدميها عيونُ الماء، وشقشقت بكل بقعة وطأتها زهورُ البيلسان، فامتلأت أرضُنا بخصب لا يبور، وإن بارت الأرضُ.
طافت العائلةُ المطوّبة من شرق مصر إلى غربها إلى جنوبها ثم عادت من حيث أتت. دخلوا مصرَ من «رفح»، بعد رحلة ألف ميل من فلسطين، ثم «العريش». ومنها إلى «فرما»، فى سيناء. بعدها دخلوا «تل بسطا» (جوار الزقازيق الراهنة)، وكانت تسمى وقتئذ «مدينة الآلهة». جلسوا هناك تحت شجرة، وظمأ الطفلُ، ولم تجد العذراءُ ماءً، فحزنت. فأمسك يوسف النجار بقضيب من الحديد وضرب جوار الشجرة فانفجرت بئرُ ماء. واستأنفوا الرحلة إلى «مسطرد» ثم «بلبيس» ثم شمالاً نحو «سمنّود» ثم غرباً نحو «البُرّلس» ثم «سخا». ثم عبروا ضفة النيل الغربية نحو الشرق ونزلوا فى «وادى النطرون». ثم دخلوا منطقة «عين شمس». وما زالت هناك شجرةٌ عتيقة اسمها «شجرة مريم» بالمطرية حيث تفجّرت هناك بئر روت السيدة العذراء وأسرتها. ثم ارتحلت الأسرة إلى «الفسطاط» وهى المنطقة المعروفة باسم «بابليون» بمصر القديمة حيث اختبأوا فى مغارة محلّها الآن كنيسة «أبوسرجة»/ المغارة، التى نقفُ الآن فى رحابها.
بعدها دخلوا «المعادى» ومكثوا فى البقعة التى تحتلها الآن كنيسة «السيدة العذراء». ثم ارتحلوا جنوباً نحو الصعيد ومكثوا برهة فى قرية «البهنسا». ثم جنوباً نحو «سمالوط» ومنها عبروا النيل شرقاً إلى «جبل الطير». ومجدداً من شرق النيل إلى غربه حيث بلدة «الأشمونيين»، ثم جنوباً حيث «ديروط»، ثم «القوصية»، ثم غرباً حتى قرية «مير». وأخيراً «دير المحرّق»، أهم محطّات الرحلة المقدسة، حيث مكثوا بها ستة أشهر، ثم محطتّهم الأخيرة فى «جبل درنكة» بأسيوط حيث سكنوا مغارة قديمة. لتبدأ بعدها رحلة العودة إلى أرض فلسطين الطيبة.
هل يجوز بعد هذا التاريخ الذى سطرته مصرُ فى قلبها للسيد المسيح وأمه البتول، أن يكون لبلد آخر عروةٌ وثقى ورباطٌ أزلى أبدى يربط الأقباطَ بأرضهم مصر، التى سمّاها أجدادنا الفراعنة «ها كا بتاح»، أى «منزل روح الإله بتاح»، ومنها اشتقت كلمة «قَبَط»، ثم «إيجبت»؟!
بمناسبة تهجير أسر مسيحية فى تزامن مع هذا العيد، أطالب المسئولين بأن يجعلوا هذا اليوم الطيب عيداً جماهيريّاً يحتفل به الشعب المصرى كافة، كما أطالب وزارة السياحة بتنظيم رحلات سياحية تقتفى أثر تلك الرحلة المقدسة، فيكون لها مردٌّ هائل يُنعش حركة السياحة الراكدة، والأهمُّ، ينعش المعرفة المنعدمة بتاريخ أرض طيبة العريقة؟
نقلا عن الوطن