يقولون إن التاريخ لا يعيد نفسه ولكنه يُقَفِّى.. وأنا أُصدقهم!
ويقولون أيضاً إننا لا نستطيع أن نرى من مستقبلنا إلا بقدر المدى الذى نستطيع أن نراه من ماضينا.. وهذا ما أعتقده جازماً!
أن نرى الماضى هو أن نقرأه تاريخاً فيه فلسفة حدوثه.. وأن نرى المستقبل هو أن نشرع فى صناعته من الآن.. وهذا ما لا أعرف غيره ولا أنتوى غيره! وأعرف أيضاً أن بغير ذلك لا يعدو التعامل مع الماضى أكثر من كونه ثرثرة باسم سرد الأخبار أو التغنى بالأمجاد.. ويكون التعامل مع المستقبل ادعاء تمنٍ وكذب بالعواطف وأحلام يقظة تدين أصحابها أكثر منها تلهمهم أو تحفزهم.
فى زمن الفتوات، والذى أرَّخَ له بعبقرية عمنا نجيب محفوظ، نجد الفتوات والحرافيش والأعيان!
كانت سنة تلك الأيام فى تداول السطوة هى الاحتكام للقوة.. إما بثورة للحرافيش.. أو بتنازع عليهم.. وفى الحالتين بقى الحرافيش على أمل أن يجدوا العدل.. ونادرا ما وجدوه..!
وفى الحالتين بقى الأعيان الأسرع إلى المبايعة.. والأشرس فى الانقلاب على ما سبق.. والأحرص على كنف الفتوة.. أى فتوة؟ لا يهم..!
نادراً ما استقام العدل فى الحرافيش- برؤية عمنا نجيب- إلا عندما كان التغيير نابعاً من ضمائرهم وبقوا مراقبين.. محتسبين.. داعمين لمن يبقى منتصرا لهم قبل أى أحد!
كان هذا شأن الحرافيش.. والأعيان.. لم يتغيرا ولن يتغيرا.. هذه عبرة التاريخ.. أن الحرافيش أأمن وأبقى.. وأن الأعيان- إلا قليلاً- أخون..!
وكان هذا هو شأن السطوة والمال والفطرة فى زاوية من تاريخنا.. لم نر فيها للعلم مكاناً ولا للدولة وجوداً..!
رأينا فى موضع آخر من ذاك الماضى كيف كان للعلم ولايته وقيادته مُرَمَزَّاً فى الإسكندرية منارة عقل وحكمة.. ورأينا كيف استخلف ذلك مصر ريادة وهيمنة وسبقاً حتى وإن صارت بهم مطمعاً.
رأينا كذلك كيف استخدمت «عاطفة» الدين فى قتل «قيمة» العلم وفى سحق «وقار» العقل.. فمنذ ١٦٠٠ سنة بالتمام والكمال وفى عام ٤١٥م على وجه الدقة..
«هيباتيا»- الفيلسوفة وعالمة الرياضيات السكندرية- تقتلها دهماءُ المدينة افتتاناً بالقوة وتوهماً بالانتصار للمقدس.. وهم فى الحقيقة يحرقون جسر وصلهم بالمقدس وهو الحكمة.. رأيناهم يخربون مصر بإهانتها وإخراجها من حلبة صراع الترقى إلى الانكفاء والتآكل.. بنبذ العقل والركون إلى العاطفة الكذوب..!
ولأن مصر ليست بدعاً من الأمم.. ولأننا نغادر ماضياً ونبنى مستقبلاً أو هكذا العزم لدى الجادين منا.. والادعاء لدى الصاخبين منا.. فإن قراءة إنسانية فى تاريخنا وتاريخ دول مثلنا توجبت.. وقد ألحت «ألمانيا» كنموذج على تواصلنا هنا.. لسببين..!
أولهما أنها دولة بَنَت مستقبلها مراراً من ركام ماضٍ أليم.. مرتين على الأقل فى التاريخ المعاصر..
ثانيهما.. لأننا لم نتعاف بعد من مقارنة فُرِضَت علينا.. وجدنا فيها رصانة أداء دولة- بُعثت من ركام اللادولة مرتين فى قرن واحد- كان العقل هو محركها.. حتى وإن جاء بارداً غاضباً حاداً وغير منصف.. فى مقابلة حالة شعبوية تدعى العاطفة محركاً، خنقت وقار الدولة أو كادت.. وبددت هيبتها أو كادت.. والأنكى انزلقت بالحق الذى تدعى حمايته إلى مستوى التنابذ والتشاتم على الشاشات وفى الساحات.
فى تاريخ ألمانيا الكبرى جاء العقل والعلم والحكمة فى فلسفة «كانط» و«هيجل»..
وسياسة «بسمارك».. وموسيقى «موتزارت وشتراوس»، وعلم «ماكس بلانك وأينشتين».. ثم جاء الافتتان بالقوة (الحقيقية غير المدعاة بالمناسبة) والتعالى بالعنصرية (التى لها بعض من شواهد موضوعية) مجسدين فى «قيصر فلهلم» رأس الرايخ الثانى وقائد الحرب الأولى.. وفى «هتلر» صاحب معجزة البعث الاقتصادى وقائد الرايخ الثالث فى حربه للهيمنة على العالم.
ما قرأته ألمانيا- ما بعد الحرب- من حكمة ماضيها.. من حروف كُتبت بمداد الدم والمهانة.. أن الأصل الباقى هو العقل والعلم والحكمة.. بهم وفيهم يكون الاستخلاف والقيادة.. وأن الافتتان بالقوة وشبق السلطة والهيمنة لا تقيم ملكاً ولا تضمن قيادة ولا يستخلف أصحابها إلا انهزاماً وعاراً وذلاً.
فهم كل من أراد لألمانيا من أبنائها الخلصاء بعثاً من ذل الانهيار بعد عام ١٩٤٥.. أن العقل والعلم والحكمة هى مناط الصراع.. لم يغادر هؤلاء حلم الريادة.. ولكنهم استودعوه العقل والعلم.. وغادروا قبله أوهام العلو العنصرى بالجنس أو المؤسسة... فصارت ألمانيا ٢٠١٥.
وكما رأينا فى ماضينا مجافاة المنطق وتجبر السطوة وطغيان العاطفة.. نرى ملامح علم وعقل وحكمة فى أدب «الحكيم» وفكر «العقاد»
وتنوير «طه حسين» و«حقى» و«هيكل» وشعر «شوقى» وموسيقى «عبدالوهاب» و«أم كلثوم» ومسرح «وهبى» و«الريحانى» وعلم «مشرفة» وفقه «السنهورى».. ونرى أثرهم فى أول ملامح رشد الدولة لدى «محمد على» حين بنى قوته الاقتصادية والعسكرية باحترام «العلم» وإن لم يعتنقه.. ثم فى ولع بالتنوير والحداثة فى دولة تقودها «فلسفة الجمال» لدى الخديو إسماعيل وبعض ممن تبعه.. «جمال السياسة» بالولوج أولى خطوات الدولة الدستورية و«الجمال الحسى» فى العمران والتشييد..
وأخيراً فى دولة عدل اجتماعى واستقلال وطنى تمثلت فى مشروع جمال عبدالناصر، علا بالانحياز لعصره وتعثر حين تنازعته فتن السلطة من داخله. ترك «فيلهلم الثانى» و«هتلر» من بعده ألمانيا فى حال اللادولة بأوهام هيمنة.. وبمثلهما فعلها مبارك.. ولكن بسلطة الفوضى وتراجع الكفاءة.
استعادت ألمانيا هيبتها ودولتها حين جعلت القوامة «للعقل» على «القوة».. و«للعلم» على «السلطة».. و«للحكمة» على «أحلام النفوذ».. وبالانحياز «للعدل» ما استطاعت.. صنعت ألمانيا مستقبلها حين رأت- من تاريخها- الإنسانية قبل السطوة..!
وكذلك ستفعل مصر إذا أبصرت وأرادت.. فليس تاريخنا أقل إنسانية ورشدا.. لمن يبصر ذلك فيه..!
المستقبل «للحرافيش» ذوى البصيرة.. ولـ«هيباتيا».. لا لمن قتلوها..!
فكروا تصحوا..
نقلا عن المصري اليوم