إنك لا تستطيع أن تبنى بناء جديداً على بناء قديم. هذه مسألة بديهية، ومع ذلك لا أدرى لماذا يتجاهلها أغلب دعاة التجديد! إن الأمر يبدو واضحاً: لا بد قبل الشروع فى تكوين وبناء خطاب دينى جديد، أن نقوم أولاً بعملية تفكيك علمى للخطاب الدينى القديم الذى أوصل أمتنا إلى ما وصلت إليه من خلل فى التصورات والرؤى الحاكمة، ليس للوجود والعالم فقط، وإنما للواقع المعيش وحركة التاريخ ومنطق التقدم، وما ترتب على ذلك من اضطراب القيم الحاكمة للسلوك فى الحياة اليومية والحياة العامة.
فعملية التفكيك لا بد أن تسبق عملية إعادة البناء، لكنه -مرة أخرى- ليس تفكيكاً على شاكلة تفكيك المشككين الذين يساهمون فى استمرار عملية السيولة التى تهدد الأوطان، وليس تفكيكاً عدمياً مثل ذلك التفكيك المروّع الذى حدث مع جاك دريدا ورفاقه فى مرحلة ما بعد الحداثة التى تنكّرت لكل مرجع، وألغت كل جوهر، ودعمت اللامركزية والتشظى.
بينما التفكيك الذى ندعو إليه هو النقد والتحليل العقلانى الذى يتمركز حول العقل المعيارى، ولا ينكر الحقيقة الموضوعية، بل يدعو إلى اكتشافها، ولا ينكر وجود قيم مطلقة، بل يتحرى الوصول إليها بمعايير علمية صارمة. ولا يتنكر للإلهى، بل يقصد إليه شعورياً فى عملية توحيد خالية من الشرك ليس فى العقيدة والعبادة فقط، بل فى المعاملات والحياة أيضاً، ومن ثم تمييز «الإلهى» عن «البشرى» فى الفكر والعلوم، ونزع القداسة الإلهية عن المرجعيات البشرية التى تنتحل الصوت الإلهى وتتحدث باسم الحقيقة المطلقة. وبدون هذه العملية لن يمكن إعادة فتح باب الاجتهاد والتجديد الحقيقيين.
إن النزعة التفكيكية الجذرية، مثل النزعة العدمية، تزعزع أسس العلم والفكر العقلانى الذى يقوم على مفهوم «المركز الثابت للفكر» مثل «المعنى» أو «الذات» أو «الحقيقة» أو «فكرة السببية».
ولهذا، فإن التفكيكية الجذرية خطر، ليس على الدين فحسب، بل على العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية والاجتماعية؛ فالعقل الإنسانى لا يمكن أن يصنع «علماً» دون أن يكون له مركز أو فكرة حاكمة.
وهذا ما تنبّه إليه «كانط»، فيلسوف الإيمان العقلانى وكبير الفلاسفة الحداثيين، الذى شق طريقاً ثالثاً بين التجريبية الحسية والعقلانية الصورية، وأنقذ العلم كما أنقذ الإيمان، بمبدأ واحد هو «فكرة الله» كمركز للعقل؛ فهى تساعد على تجميع وتنظيم عمليات الفكر فى نظام واحد له مرجعية كبرى توحده توحيداً أكبر، وهذه المرجعية الكبرى هى علة نهائية لا مشروطة، أى ليست معلومة لغيرها، أى الله. وهذه العلة اللامعلولة (أى لا علة لها) تقوم بتنظيم أفكارنا فى نظام واحد، لأنها تقدم لرجل العلم خلفية من المعقولية والوحدة لا بد أن يكون عليها «العالَم» إذا ما أردنا تكوين قوانين ونظريات علمية عنه ذات طابع شامل متكامل موحد.
وكما تقوم «فكرة الألوهية» بدور معرفى تنظيمى توحيدى ضرورى للعلم، فكذلك شأن «فكرة النفس» و«فكرة العالَم»؛ ففكرة «النفس» تبدو على أنها «الموضوع المشترك» الذى تستند إليه فى النهاية الظواهر الباطنة، إذ لا بد معرفياً من افتراض «ذات» تقف خلف جميع «الأحوال الشعورية»، كما أن فكرة «العالَم» تبدو على أنها مجموع الظواهر؛ إذ لا بد معرفياً كذلك من افتراض أن هناك «كُلاًّ غير محدود» ترتد إليه الظواهر الجزئية. يقول «كانط»: «لا يوجد للأفكار المفارقة أى استخدام بنائى على الإطلاق.. لكنْ لها من جهة أخرى استخدام تنظيمى جيد وضرورى لا يمكن الاستغناء عنه، وهو إرشاد الفهم إلى غاية محددة، وحتى تتجمع الخطط الموجهة لكل قواعد الفهم فى نقطة واحدة صالحة أو مناسبة لإمداد تصورات الفهم بأكبر وحدة وأكبر اتساع ممكن»، وهى نقطة بؤرة مركزية توجد خارج حدود التجربة الممكنة تماماً. وهى بؤرة لا يمكن الاستغناء عنها حينما نريد أن نرى الموضوعات البعيدة وراء ظهورنا، بالإضافة إلى الموضوعات القريبة من بصرنا. وما يسعى العقل إلى تحقيقه هو تنظيم المعرفة؛ أى ترابطها طبقاً لمبدأ تنظيمى للعقل يعطى وحدة أكبر من تلك التى يصل إليها بالفعل الاستخدام التجريبى للفهم.
إذن فحاجة العقل إلى «مركز» ليست مجرد حاجة إيمانية، بل حاجة علمية لتنظيم المعرفة حول مبدأ يعطى لها وحدة لا يمكن أن تقدمها التجربة وحدها.
من الواضح هنا أننا دخلنا فى هذا الاستطراد؛ حتى نبين زيف التفكيكية الجذرية عندما ترفض مفهوم «المركز الثابت للفكر»؛ فالعقل الإنسانى بلا مركز لا يصل إلى وحدة تنظيمية لمعارفه، وبدون هذه الوحدة لا يمكن أن يقوم العلم بقوانينه ونظرياته؛ فالقانون هو «وحدة وتوحيد» لظواهر جزئية مشتتة، وكل قانون يفترض قانوناً آخر أعلى وأشمل منه. وأتصور أن هذا هو المبدأ نفسه الذى يقوم عليه الإيمان من رد الكثرة إلى الوحدة.
نقلا عن الوطن