تجدد الجدل حول أحقية محمد مرسى بكرسى الرئاسة الذى جلس عليه لمدة عام كامل، وما إذا كان هناك قرار اتخذته جهات خفية هو الذى أتى به بغير وجه حق إلى المنصب الرفيع. أقر الرئيس السيسى بانتخاب محمد مرسى رئيساً فى انتخابات سليمة، حسبما جاء فى المؤتمر الصحفى الذى عقده فى برلين قبل أسابيع قليلة مع المستشارة ميركل. كان الرئيس السيسى موفقاً عندما تجنّب الدخول فى هذا الجدل العقيم فى بلد غربى لا يبدو أهله مهيئين للاستماع إلى رواية أخرى، لكن الأمر مختلف بالنسبة إلى كثيرين لهم أسبابهم للطعن فى الرواية الرسمية.
الحقيقة الكاملة حول هذه القضية لن تتكشف قبل مرور عقود عندما تصبح تاريخاً لا يغير الكشف عنه واقع الأمور والأشياء، وحتى نصل إلى هذه اللحظة فإن الاجتهاد حول هذه القضية لن ينقطع، وسيظل الباحثون عن الحقيقة وأصحاب المصلحة يقدمون روايات مختلفة عما حدث فى تلك الأيام من شهر يونيو من عام 2012.
ربما كان من المفيد تذكير الناس بالأجواء التى جرت فيها انتخابات الرئاسة إياها. فما إن تم إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية إلا وأصاب الكثيرين شعور عميق بالصدمة. كشفت نتائج جولة الانتخابات الأولى عن تقدّم محمد مرسى وأحمد شفيق لمرحلة انتخابات الإعادة على حساب مرشحى الثورة، الناصرى حمدين صباحى، والإسلامى المطرود من الإخوان عبدالمنعم أبوالفتوح، وأيضاً على حساب عمرو موسى رجل الدولة ذى الوجه المعتدل غير المحمّل بميراث سنوات حكم «مبارك» الأخيرة سيئة السمعة. يومها فرح الإخوان، لكن دون مبالغة فى إظهار البهجة، تاركين للمصدومين الفرصة للتعبير عن مشاعرهم. تدفّق المصدومون على ميدان التحرير، مكررين مشاهد الاحتشاد الكبير التى اعتدنا عليها فى زمن الثورة فى تناقض واضح بين سياسات الشارع والسياسات المؤسسية التى ارتضيناها عندما اخترنا الذهاب إلى صندوق الاقتراع. لم يكن زمن الثورة قد انتهى بالنسبة إلى هؤلاء، ولم تكن الانتخابات فى نظرهم سوى وسيلة غير مقدّسة لتحقيق الأهداف الثورية نفسها. شكك بعض المحتشدين فى نتائج الانتخابات التى لم تنصف مرشحيهم المفضلين، وحاولوا دفع مرشحيهم للتمرد على نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات، ولما لم تجد هذه الدعوة الصبيانية آذاناً مصغية لدى مرشحين كان لديهم من العقل والحكمة ما يكفى لرفضها، صب المصدمون غضبهم على أحمد شفيق كما لو كان هو المسئول عن إخفاق مرشحى الثورة. انتهت فعاليات هذه الليلة بمظاهرة حاشدة حرق المشاركون فيها المقر الانتخابى الرئيسى للمرشح أحمد شفيق، فى مشهد كاشف عن نوع الديمقراطية التى يفضلها الثوار.
لم يأبه المصدومون لوصول مرشح الإخوان إلى جولة الانتخابات الثانية، فالإخوان شركاء فى الثورة على كل حال، فيما ركزوا جهدهم لإفشال مرشح الفلول. فى هذه الأجواء كان على أحمد شفيق خوض جولة انتخابات الإعادة. الشارع فى هذه الأيام كان تحت سيطرة الثوار والإخوان، وفيه كانت الأجواء معادية للمرشح القادم من زمن «مبارك». وبينما نظم الإخوان مؤتمرات ومسيرات حاشدة تحدث فيها مرشحهم، فى استعراض مبهر للقوة، عن إحكام التنظيم وحجم التأييد، لم يستطع أحمد شفيق تنظيم ولا مؤتمر جماهيرى واحد، ولولا المقابلات التليفزيونية التى أتاحتها له بعض القنوات الخاصة لما استطاع المرشح الرئاسى مخاطبة جمهور الناخبين، ولاقتصرت حملته الانتخابية على «التربيطات» مع مراكز القوى المحلية المنتشرة فى أنحاء البلاد، والتى أجاد جهازه الانتخابى توظيفها فى مرحلتى الانتخابات الأولى والثانية.
الأحزاب السياسية الرئيسية أحجمت عن أخذ جانب أىٍّ من المرشحين فى انتخابات الإعادة، كما لو كان الأمر لا يعنيها. كان التنافس على قمة هرم السلطة فى البلاد على أشده، فيما الأحزاب -التى هى مؤسسات بضاعتها وهدفها السلطة- فى وادٍ آخر. أخرجت الأحزاب نفسها من أكبر مباراة سياسية فى البلاد، مكتفية بالمشاهدة، فكان فى استقالتها هذه اعتراف صريح بأنها غير ذات صفة عندما يتعلق الأمر بقضية السلطة فى البلاد.
انقسم الشبان الثوريون بين مؤيدين لمرشح الإخوان وممتنعين عن التصويت، أما أحمد شفيق فكان اختياراً مرفوضاً من أغلبيتهم الساحقة، إن لم يكن منهم جميعاً. فى هذه الأجواء بدا محمد مرسى وكأنه المرشح الذى يحظى بالقبول فى الشارع السياسى الصاخب، أما الحوارى والقرى والنجوع الصامتة فقد تراجعت أهميتها فى هذه الحسبة، فالأعداد لا تهم فى زمن الثورة، حيث الأقلية والأغلبية أمور ثانوية، أما التسيّد فيكون لمن يثير صخباً أعلى، ولمن ينجح فى تخويف الخصوم والحكام من غضبته.
لم يفوت محمد مرسى الفرصة، فرفض فى كل التصريحات التى أدلى بها أثناء الحملة الانتخابية إعلان استعداده القبول بنتائج الانتخابات إذا فاز بها المرشح المنافس، فكان محتوى رسالته لمن يعنيهم الأمر «فيها لاخفيها»، استمراراً لنفس منطق الانتخابات الثورية المعوج. بعد ساعات قليلة من انتهاء التصويت فى جولة الانتخابات الثانية، سارع الإخوان بإعلان فوز مرشحهم. احتل الإخوان ميدان التحرير احتفالاً بفوز «مرسى»، وقطعاً للطريق على أى نتيجة مخالفة. هدّد الإخوان بحرق البلاد إذا جاءت النتيجة الرسمية بغير ذلك، وتعزز ادعاؤهم الفوز بنتيجة الفرز غير الرسمية التى أعلنتها المجموعة التى أطلقت على نفسها اسم «قضاة من أجل مصر». تفاعل الثوريون مع المناورة الإخوانية، فالتقوا بالمرشح المزعوم فوزه فى «فيرمونت» للاتفاق على ترتيبات المرحلة التالية.
لم يكن ممكناً فى مثل هذه الظروف إعلان أى نتيجة مخالفة لما أراده الإخوان والثوريون. خطف الإخوان الانتخابات كما اختطفوا الثورة من قبل، وكان الخيار بين التسليم لهم بكسب الجولة أو احتراق البلاد. ليس مهماً من فاز بأغلبية الأصوات فى تلك الانتخابات، لكن المهم هو أن البلاد تجنبت السيناريو المخيف، فحمداً لله أن الوطن اجتاز محنة الانتخابات الرئاسية بسلام.
نقلا عن الوطن