كان البلد على أعصابه ينتظر ما يقوله الرجل الذى آلت إليه مقاليد الرئاسة فى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر قبل أربعة أيام من تظاهرات (٣٠) يونيو وأسبوع واحد من عزله فى (٣) يوليو.
انتهى كل شىء فى هذا المساء وهو يخطب بعصبية بالغة بين حشد من أنصاره يدعونه إلى الحسم مع خصومه السياسيين والتحريض على أية قيمة ديمقراطية صعدت بهم إلى السلطة.
كانت الخطيئة السياسية الأولى إنكار أن هناك أزمة كبرى، وإنكار الأزمات من أسباب سقوط النظم وتقوض الرئاسات.
كما هى العادة دائما فإن التهوين من الغضب الشعبى يعمى الحسابات قبل العيون.
لم يقرأ هو، ولم تقرأ جماعته، طلب إجراء انتخابات رئاسية مبكرة الذى تجاوز أية طاقة مفترضة لأية قوى سياسية أو غير سياسية فى جمع التوقيعات.
تصورت الجماعة أن ما لديها من قوة فى التنظيم ووفرة فى الموارد المالية كاف للحسم والزج بأية معارضة مدنية فى السجون باليوم التالى لفشل (٣٠) يونيو وأعدت بالفعل قوائم الاعتقالات.
كان إفراط الرئيس المعزول «محمد مرسى» فى التهديد والوعيد والتحرش بقضاة وإعلاميين وسياسيين إغلاقا عنيفا لأية نافذة محتملة على تسوية ما.
فى جو الغضب العام تبدت ثلاثة مطالب.. أولها، تغيير النائب العام المستشار«طلعت عبدالله» بآخر يختاره المجلس الأعلى للقضاء.. وثانيها، إقالة حكومة «هشام قنديل» واختيار شخصية مدنية توافقية لهذا المنصب.. وثالثها، إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
التاريخ لا يكتب بأثر رجعى ولا بالنوايا الحسنة غير أن أى درجة من الاستجابة للمطالب الثلاثة كانت سوف تضع الأزمة التى توشك أن تنفجر على مسار آخر.
الحقيقة أن القرار الأخير لم يكن لـ«مرسى»، فقد كان أميل إلى استجابة من مثل هذا النوع لتخفيض التوتر السياسى على ما توافق مع رجل الجيش القوى «عبدالفتاح السيسى».
غير أن ما جرى التوافق عليه مسح بـ«أستيكة غليظة» فى خطاب (٢٦) يونيو.
لم يكن ذلك مفاجئا على أى نحو، فالقرار فى مكتب الإرشاد بـ«المقطم» ولم يكن عند الرئيس فى«الاتحادية».
فى أول يونيو زارت ثلاث شخصيات عربية مكتب الإرشاد فى محاولة لإقناع المرشد «محمد بديع» بـ«مخرج سياسى» للأزمة يستجيب على نحو ما لمطالب المعارضة المدنية.
الثلاثة هم: الشيخ «راشد الغنوشى» زعيم حركة النهضة فى تونس والأستاذ «منير شفيق» المفكر الفلسطينى المعروف والدكتور «خير الدين حسيب» مؤسس المؤتمر القومى العربى.
أخفقت المهمة تماما، ولم يبد أن الجماعة مستعدة لأية تسويات سياسية معتقدة أن عضلاتها تردع وأن بوسعها وحدها «التكويش» على السلطة.
وكانت تلك خطيئة سياسية ثانية أفضت إلى طردها من المسرح كله.
لم تكن الجماعة مهيأة للحكم وافتقدت الحد الأدنى من كفاءة الأداء العام وتعاملت مع السلطة كأنها «جائزة» أتت إليها متأخرة وأنه حان الوقت لأعضائها أن يتولوا كل المناصب العامة من أعلاها إلى أدناها.
بحسب ما رصده حليفها «حزب النور» فإن الجماعة استولت بأقل التقديرات على أكثر من (١٠) آلاف وظيفة فى غضون شهور.
فى تجربة السلطة توارت «الجماعة المظلومة» وبرزت الجماعة التى تظلم الآخرين.
لم تخلص لأية وعود قطعتها على نفسها ولم تبق على أى تحالف مع أية قوى وثقت فيها.
نجحت بصورة هائلة فى اكتساب العداوات وبدأت كل الأنهار تتدفق إلى محيط غضب واحد وجد عنوانه فى (٣٠) يونيو.
كانت الخطيئة السياسية الثالثة أن الجماعة وضعت نفسها فى مواجهة المجتمع.
هونت من حجم التظاهرات المحتملة وتصورت أن بوسعها أن تحشد أكثر منها وناهضت توقيعات الانتخابات الرئاسية المبكرة بتوقيعات هزلية فى الاتجاه المضاد.
لم تدرك أن مشكلتها الرئيسية مع مجتمعها، خسرت بصورة شبه كاملة الطبقة الوسطى المدنية وجماعات المثقفين والفئات الأكثر فقرا الذين طالعوا لأول مرة ما هو خاف فى حقيقتها.
بدت فى العراء السياسى لا يقف بجوارها سوى بعض التنظيمات الإسلامية وبعضها إرهابى بالمعنى الحرفى.
خلطت بين الشرعية والشريعة وتلاعبت بأهداف الثورة وفق حسابات اللحظة.
إن أى قراءة متأنية لمواضع التظاهرات الاحتجاجية ضد حكم الإخوان المسلمين تكتشف ببساطة أن السقوط مرجح فى مدى أسرع من أى توقع فقد رفع عنها أى غطاء مدنى.
وهذا ما حدث على عكس توقعات الجماعة لحجم تظاهرات (٣٠) يونيو وقوة أثرها.
وكانت تلك خطيئة سياسية رابعة فى معاندة الحقائق.
لم تكن مستعدة للاعتراف بفشلها فى إدارة الدولة ولا كانت متقبلة لأية شراكة سياسية إلا أن تكون ديكورا.
بدت عاجزة تماما عن أن ترى كراهيتها فى الشارع مجسدة فى عشرات الملايين ولا أن تقر بشرعية الغضب عليها.
مانعت فى قراءة المشاهد التاريخية ووصفتها بأنها «فوتوشوب».
عندما تغالط الحقائق التى أمامك فإنك أقرب إلى الطرد من التاريخ.
هذه القاعدة تنطبق على الجماعة بصورة مذهلة.
فى لحظة الصدمة راهنت على الوعود الأمريكية بأكثر من أية حسابات داخلية.
كانت تلك خطيئة سياسية خامسة عجزت عن أن تطل على الحقيقة التى كان يعرفها كل الناس باستثناء قياداتها.
كان لديهم اعتقاد راسخ أن الجيش لن يتدخل فى صراعات السلطة أيا كانت أحجام تظاهرات (٣٠) يونيو أو احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلى.
الإدارة الأمريكية قطعت تعهدات لم تكن تملكها لرجل الجماعة القوى «خيرت الشاطر» نقلتها السفيرة «آن باترسون».
تدخل الجيش لم يكن قرار رجل واحد إنما هو قرار مؤسسة وصفها «مرسى» نفسه بـ«رجال من ذهب».
حتى لا ننسى فإن قطاعا كاسحا من الرأى العام طالب بمثل هذا التدخل قبل أن يحدث وهناك من اتهم قيادة الجيش بالتخاذل عن التقدم لإنقاذ البلد من مصير مأساوى.
استنادا إلى الوعود الأمريكية تشددت الجماعة وهدد «الشاطر» وزير الدفاع بالاحتراب الأهلى فى لقاء جمعهما يوم (٢٤) يونيو، وهو المعنى نفسه الذى كرره بعد يومين«مرسى» فى خطابه العلنى الأخير.
وكانت الخطيئة السياسية السادسة أن الجماعة لم تستوعب الإطاحة رجلها فى قصر الاتحادية يوم (٣) يوليو.
أفلتت فرصتها الأخيرة فقد دعى «محمد سعد الكتاتنى» رئيس مجلس الشعب السابق ورئيس حزبها «الحرية والعدالة» إلى الاجتماع الذى سبق مباشرة الإعلان عن خريطة المستقبل.
غير أن الجماعة رفضت هذه المشاركة التى كان يمكن أن تفضى وفق تعقيدات لا مثيل لها إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة دون حل مجلس الشورى الذى تسيطر عليه الجماعة وتعليق العمل بالدستور الذى صاغته وحدها.
المعنى أنه كانت أمامها فرصة أخيرة لإعادة ترتيب أوراقها ولملمة خسائرها لكنها لم تكن مهيأة لأى تصرف سياسى يوقف تدهورها.
بانخراطها فى العنف قوضت أية مبادرة سياسية حتى بدت فكرة المصالحة نفسها سيئة السمعة.
كان الانخراط فى العنف والتحريض عليه هو الخطيئة السابعة والقاتلة معا.
نقلا عن الشروق
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع