د.عبدالخالق حسين
ليس من السهل أن نعطي صورة واضحة لموضوع معقد وشائك ومتداخل كموضوع الثلاثي (الإسلام والغرب والإرهاب)، بحيث ترضي الجميع، خاصة وهناك خبراء محترفون في التضليل، ومحاولات متواصلة للتشويش ونشر البلبلة الفكرية، وشق الصفوف إلى جبهات جانبية متناحرة. فبعد نشر مقالي الموسوم (الإسلام والغرب والإرهاب)(1)، استلمت تعليقات كثيرة من عدد من الأصدقاء والقراء المهتمين بهذا الشأن. فهناك مواقف متباينة حول هذا الموضوع المثير للجدل، منهم المعتدلون الذين شاركوني في الرأي، و منهم من يرى الإسلام هو المسؤول الأول والأخير عن كل ما حصل في المنطقة من مشاكل، أما أعداء أمريكا فأيدوني وبحرارة واعتبروا موقفي هذا هو تصحيح لخطأ وقعت فيه عندما طالبت بعلاقة استراتيجية دائمة مع أمريكا! وفريق رابع، وهم مع تبرئة أمريكا في كل شيء، اعتبروا موقفي هذا تراجعاً وخذلاناً، وطالبوني بإعادة النظر في موقفي هذا !!!
وفريق خامس يلعبون على عدة حبال، وأغلبهم من خلفية بعثية رغم أنهم ينكرون ذلك، فيتظاهرون كذباً بالألم والحرقة على العراق. فهؤلاء يريدون من العراق أن يكون في حالة حرب مع أمريكا، ويشتموننا ويعتبرون كل من لا يوافقهم في الرأي هو عميل لأمريكا وإسرائيل، ويحثون القادة السياسيين والكتاب، وخاصة الشيعة منهم، لمعاداة أمريكا وفق مقولة (شيِّم البدوي وخذ عباته)، بينما نرى قادتهم يحجون إلى واشنطن باستمرار، ويدفعون ملايين الدولارات لشركات العلاقات العامة، وتكوين لوبيات الضغط لكسب الإدارة الأمريكية إلى جانبهم، فهؤلاء يعادون أمريكا ويشتمونها في العلن، ويخدمونها في السر، ويحاولون كسبها إلى جانبهم. ويكفي أن أذكر في هذه العجالة أن هؤلاء مصابون بعمى الألوان، لا يرون إلا الأسود والأبيض، و سأعود إليهم في مقال لاحق.
وفي الجانب الآخر، هناك بعض الأخوة يعتقدون أني نفيت عن الإسلام أي دور له في العنف، وما فيه من نصوص تدعو إلى الإرهاب. وعلى سبيل المثال، ضرب صديق لي مثلاً بما فعله الإرهابيون في محافظة نينوى (الموصل)، وسوريا من تدمير لمعابد غير المسلمين، وللآثار والمعالم الحضارية التاريخية...الخ، وقال أن ما فعله الإرهابيون هو تطبيق للنصوص في الكتاب والسنة، وعليه فالإسلام، وليست أمريكا وحلفائها في المنطقة مسؤولون عن الإرهاب.
لقد أشرتُ في المقال المذكور أعلاه، ومقالات سابقة أن في الإسلام، وكل الأديان السماوية، نصوص تدعو للعنف، ولكن لأول مرة في التاريخ نجد استفحال الإرهاب وعلى شكل جيوش منظمة وله دولة. وشبهت هذه النصوص بالألغام الخامدة، لا يمكن أن تنفجر إلا بتفعيلها بعامل سياسي. لذلك رأيت من الضروري العودة للموضوع، وتسليط المزيد من الضوء عليه بغية التوضيح.
فالاختلافات الدينية والمذهبية والقومية موجودة في معظم الشعوب. وفي فترات معينة حصلت حروب بين هذه المكونات بسبب هذه الاختلافات. فالحروب بين مكونات الشعب السويسري استمرت لعشرات السنين إلى أن انتهت بتأسيس فيدرالية الكانتونات. كذلك ما حصل في عصرنا من حروب إبادة الجنس بين شعوب البلقان (الشعب اليوغوسلافي سابقاً) في التسعينات من القرن المنصرم. ومجازر رهيبة في رواندا عام 1994 بين الهوتو والتوتسي بسبب الاختلاف القبلي راح ضحيتها 800 ألف إنسان خلال ستة أسابيع، و لو كان الشعب الرواندي مسلماً لقالوا أن الإسلام هو سبب تلك المجازر.
على أية حال، في الإسلام نصوص تدعو للعنف ضد المختلف، ومعوقة للتقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، ويحتاج إلى إصلاح، ولكن هذا الإصلاح لا يتم بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى زمن طويل، ونضال عسير من قبل المثقفين الإصلاحيين، وبالأخص من رجال الدين المتنورين. وقد بدأت هذه الحملة منذ أواخر القرن التاسع عشر من قبل مصلحين من أمثال: عبدالرحمن الكواكبي، وجمال الدين الأفغاني، و محمد عبده، والشيخ علي عبدالرازق، والطاهر حداد وغيرهم، وفي عصرنا هذا، المرحوم آية الله حسين علي منتظري، والمرحوم السيد محمد حسين فضل الله، والمجتهد السيد حسين إسماعيل الصدر، وآخرون. فالإصلاح الديني عملية بطيئة ملازمة للتطور الحضاري لكل شعب، ناهيك عن صعوبة أو استحالة تغيير أو حذف نصوص دينية، فـ(حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة). لذلك قال المستشرق الفرنسي إرنست رينان أنه "من الصعوبة إصلاح الإسلام لأنه إذا أردت إصلاحه لن يبقى منه شيئاً". وعليه لا يمكن التعرض للنصوص أو تغييرها، وإنما الإصلاح يحصل من خلال التقدم الحضاري، وعن طريق فتاوى رجال الدين وإصدار السلطات التشريعية لقوانين توقف العمل ببعض النصوص كما حصل مؤخراً في إيران وتركيا حيث أوقفوا العمل بالنصوص التي تقضي برجم الزاني والزانية وقطع يد السارق...الخ.
أما دور الإسلام في الإرهاب فقد تم توظيف النصوص له من قبل حكومات جئنا على ذكرها، ولأغراض سياسية. ولتوضيح الموضوع المعقد يمكن تشبيه هذه النصوص الدينية في الإسلام التي تدعو إلى العنف و(الإرهاب) بالجينات الوراثية المسببة للأمراض. فهناك الكثير من الأمراض تتناقل عن طريق الجينات الوراثية، أو الطفرة الوراثية (mutation)، مثل مرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، والكثير من السرطانات والأمراض العقلية.
ولكن لاحظ العلماء أن معظم هذه الجينات لا يمكن أن تسبب الأمراض إلا إذا توفرت لها عوامل بيئية وطرق حياتية معينة (Life style). وهناك مقولة في هذا الخصوص:
""Genetics load the gun, lifestyle pulls the trigger، أي (الجينات تعبئ البندقية ولكن طريقة الحياة هي التي تسحب الزناد). فكثير من الناس يحملون جينات وراثية تعرضهم للإصابة بسرطان الرئة مثلاً، ولكن الإصابة بهذا المرض في أغلب الحالات مرتبط بالتدخين لفترة طويلة. فقد أثبتت الدراسات أن 80% من سرطانات الرئة في النساء، و90% في الرجال بسبب التدخين. وأن الرجال المدخنين معرضون لهذا المرض 23 مرة أكثر من غير المدخنين. يعني أن حمل الإنسان للجينات المرضية لا يكفي للإصابة بسرطان الرئة ما لم يكن مدخناً، وإذا ما تجنب التدخين فهناك 90% احتمال عدم إصابته.
وكذلك الإسلام، كأي دين سماوي، معبأ بالنصوص التي تدعو للعنف والإرهاب، ولكن هذه النصوص (الألغام) تبقى خامدة غير فاعلة ما لم تأتي قوى سياسية شريرة تقوم بتفعيلها وتفجيرها. فأتباع الديانات من غير المسلمين عاشوا مع المسلمين خلال 1400 سنة بسلام، وفي بعض المراحل تبوأ مسيحيون ويهود وصابئة مناصب سياسية عليا في الدولة الإسلامية، ولعبوا دوراً كبيراً في النهضة الثقافية التي حصلت في مختلف العهود وخاصة في عهد الخليفة المأمون. كما وبقيت المعالم الحضارية القديمة بسلام وأمان ولم يمسها أحد بأي سوء وفي أشد فترات دولة الخلافة الإسلامية قوة وبأساً. فما الذي جعل هؤلاء الإرهابيين يرتكبون هذه الفظائع بحق الإنسانية والحضارة البشرية في القرن الحادي والعشرين وباسم الإسلام ؟ وإذا كان الإسلام هو سبب الإرهاب فلماذا الغالبية العظمى من المسلمين هم ضد الإرهاب، إلا من تعرض منهم لغسيل الدماغ من قبل مشايخ الوهابية ومن اعتنق المذهب الوهابي وبدفع من الحكومة السعودية؟ فليس من باب الصدفة أن يكون الغالبية العظمى من الانتحاريين هم سعوديون، و15 من 19 من الذين ارتكبوا جريمة 11 سبتمبر 2001 في أمريكا هم سعوديون. بعبارة أخرى، لا يمكن للمسلم أن يكون إرهابياً ما لم يكن وهابياً. بدليل أنه قبل شهرين قام مسلم شيعي مقيم في استراليا بعملية إرهابية هناك، تبين أنه قد اعتنق الوهابية. وهذا لا يعني أن كل وهابي هو إرهابي، ولكن يصح القول أن كل إرهابي هو وهابي. فحزب الأخوان المسلمين، والانتماء لأية منظمة إرهابية هي عملية وهبنة المسلم من مختلف المذاهب الإسلامية إلى الوهابية ليكون إرهابياً.
ومن هنا نستنتج أن سبب الإرهاب هو توظيف النصوص الدينية من قبل حكومات ولأغراض سياسية. ومن هذه الحكومات السعودية وقطر وتركيا، وبدفع وتخطيط من المخابرات الأمريكية، وهذا واضح لأن توظيف الإسلام للإرهاب تم منذ أن بدأ الحكم الشيوعي في أفغانستان 1978 ولحد الآن. أما إثارة الفتن الطائفية والصراع بين السنة والشيعة وبهذا الشكل المخزي فقد حصل بعد الثورة الإسلامية في إيران بسبب إعلانها العداء لأمريكا وإسرائيل، ولحلفائهما في المنطقة، فبدأت السعودية وغيرها بإثارة الفتن الطائفية.
وهذا لا يعني أننا يجب أن نتوقف عن المطالبة بالإصلاح الديني. ولكن ما المقصود بالإصلاح؟ هل يعني إيقاف العمل ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟ فهذا الإجراء معمول به في جميع الدول الإسلامية عدا السعودية التي هي الدولة الرئيسية التي ترعى الإرهاب وتنشر التطرف الديني، والمفارقة أنها أقرب دولة حليفة لأمريكا التي تقود الحملة لمحاربة الإرهاب.
في رأيينا أن المطلوب بالإصلاح هو فصل الدين عن السياسة، إذ كما قال حجة الاسلام السيد حسين خميني (حفيد الإمام روح الله خميني): "الدين يفسد السياسة والسياسة تفسد الدين"، والعمل على تطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص دون أي تمييز بسبب الاختلاف في الدين والمذهب والقومية، وتطبيق مبدأ (الدين لله والوطن للجميع)، ونشر ثقافة التسامح، وتقبل حق الاختلاف، والأخوة الإنسانية في جميع وسائل الإعلام، وجميع مراحل الدراسة من الابتدائية إلى الجامعة، وتنقية المناهج الدراسية من أي تحريض ديني، أو عنصري ضد الآخر المختلف. وإدخال مواد إنسانية مثل: علم الاجتماع، والفلسفة، وتاريخ الأديان المقارن في مرحلة الثانوية، لأن هذه المواد تهذب الإنسان، وتخلصه من التعصب الديني.
والسؤال المهم هنا ما هو الحل السريع للمعضلة العراقية، وكيف يتخلص من شرور هذا الإرهاب المدعوم دولياً؟ وهل الحل إما في الانبطاح والاستسلام لأمريكا أو محاربتها وحلفائها في المنطقة ولا شيء بينهما؟ أم هناك حلول عملية حضارية قابلة للتطبيق؟ الجواب على هذا السؤال هو موضوع مقالنا القادم.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/