المتأمل لتلك الرواية التى لخص فيها «ابن كثير» -فى كتابه «البداية والنهاية»- قصة نشأة الحشاشين، وطبيعة عقيدتهم، وعلاقتهم بالسلطة، وبالأفراد العاديين من أبناء الشعوب، والطريقة والأسلوب الذى كان يدير به «الحسن الصباح» أتباعه، يستطيع أن يستخلص العديد من السمات وأبعاد الصورة الذهنية التى حاولت السلطة السلجوقية، ودولة الخلافة العباسية، وفقهاء ومؤرخو أهل السنة والجماعة، رسمها لهذا «التنظيم» وشيخه «الحسن الصباح». وتتحدد أبرز هذه السمات فى: الزندقة (أى الإلحاد بالمصطلح المعاصر)، واعتزال الناس، وسيطرة الجهل على الأتباع، وخضوعهم لعمليات تخدير ممنهج ومنظم، والسمع والطاعة الذى يبديه الأتباع للقائد.
تهمة الزندقة كانت من التهم المريحة الجاهزة فى ذلك العصر، التى تسهل على السلطة أو الجهة أو الشخص، اغتيال خصومه السياسيين معنوياً، وهى تهمة لا يخلو منها أيضاً الواقع المعاصر للخصومات السياسية داخل ديار المسلمين. فالزندقة تعنى فى الوجدان المسلم «إنكار الدين»، وهى من أقبح الصفات التى توجب ازدراء المجموع المسلم للشخص، حال اتهامه بها. يشير «ابن كثير» إلى أن الحسن الصباح «كان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها»، وهو يقصد بالزنادقة فى هذا المقام: الشيعة الفاطميين من المؤمنين بالمذهب الشيعى «الإسماعيلى»، وكانوا يسيطرون حينذاك على مصر، ولا خلاف على أن من تعلم الزندقة -على حد وصف «ابن كثير»- وتكاثر الأتباع من حوله، لا بد أن يتحول إلى معلم للزندقة، بما تعنيه من معانى إنكار الدين والخبث والضلال والشرود عن الفهم الشائع للإسلام. وهى معانٍ كفيلة بإثارة العامة على أى شخص أو جماعة بمجرد إلصاقها بها، خصوصاً إذا تردد الاتهام على لسان كبار الفقهاء والشيوخ وعلى ألسنة أصحاب السلطة والسلطان. وقد كان السلاطين حريصين أشد الحرص على حشد العوام فى الحرب على «الحشاشين»، بل وإشراكهم فى غنائم الهجوم عليهم. وقد أشار «ابن كثير» إلى أن السلطان كان يحرّض العوام على قتل الحشاشين: «ونودى فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله»، إنه تحريض رسمى على القتل، ليس بهدف إشعال حرب أهلية، بل للاستقواء بالأهالى فى الحرب على أتباع هذا «التنظيم»، بالإضافة إلى خلق نوع من أنواع العداء الشعبى تجاه الحشاشين، يحول دون انضمام المزيد من الكوادر إليهم، خصوصاً أن طريقتهم فى العمل كانت مثار إعجاب بعض الأفراد العاديين من أبناء الشعوب.
ويعد «اعتزال» الناس سمة أخرى من سمات الصورة السلبية التى حاول أهل هذا العصر رسمها للحشاشين. فهم يلجأون إلى القلاع وشعاب الجبال فيما يشبه الهجرة، كمظهر من مظاهر رفضهم المجتمع، وكفرهم السياسى أو العقائدى بما يدين به أهله. والتكفير -أياً كان نوعه- لا بد أن تعقبه «عزلة» أو هجرة، وذلك ما قرره «الحسن الصباح» -كما يشير «ابن كثير»- حين تمدد من قلعة «آلموت» إلى الاستيلاء على مجموعة أخرى من القلاع المحيطة بها، وتحصّن بها، وبدأ يعزل فيها أتباعه عن العالم ويدرّبهم ويعدهم للانقضاض على المجتمع الذى هاجروا منه وناصبوه العداء. وكان «تجهيل الأتباع» من السمات الأساسية للصورة السلبية للحشاشين، فأتباعهم يوصفون بالجهل والفراغ المعرفى الذى يجعلهم مرتعاً خصباً للأفكار التى يبثها فيهم «التنظيم». يقول «ابن كثير» إن «الصباح»: «كان لا يدعو إليه من الناس إلا غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله». ولا خلاف على أن تشويه التابع بهذه الصورة، ووصفه بأنه لا يعرف يمينه من شماله، يستهدف التقليل من قدرات القائد الذى يسيطر عليه ويوجهه، وأن خضوع التابع مرده الجهل والتغفيل، وليس عبقرية من يقوده. ومن اللافت فى سمات الصورة التى رسمها «ابن كثير» لـ«الحشاشين»، تلك الإشارة إلى الأدوات التى كان يستخدمها «الصباح» فى السيطرة على أتباعه من خلال إطعامهم العسل بالجوز والشونيز (الحبة السوداء) حتى يحرّف مزاجه، وهى أدوات فى المجمل لا تؤدى إلى التخدير، لكن قد يكون لها تأثير إيجابى على استرخاء الأعصاب، وربما دعم ذلك أن «الصباح» كان يشفعها بالرقية، وبعض أعمال السحر، كما ينص «ابن كثير»، وهو يسقى المريد ويطعمه، حتى يتهيأ لقبول الخطاب «الحشيشى» الشيعى المنتصر لأهل البيت والإمام على بن أبى طالب. وتكون النتيجة المترتبة على ذلك هى الخضوع التام، والطاعة الكاملة من جانب المريد لشيخه وقائده، بحيث يمتثل إلى كل أوامره أياً كانت، حتى لو طلب منه أن ينحر نفسه بخنجر، أو أن يلقى بنفسه من أعلى جبل ليتردى منه، كما روى «ابن كثير»، وهى رواية لا تخلو من شطط، لكنها فى المجمل العام تؤشر إلى أن أتباع «الصباح» كانوا يطيعونه طاعة عمياء، حتى لو كان فى هذه الطاعة هلاكهم.
من الوارد بالطبع أن يصل أعضاء «فرق الموت» إلى هذا المستوى من الطاعة والتضحية فى سبيل قيادتهم، ولو أننا راجعنا العديد من الوقائع والعمليات الانتحارية التى يقوم بها أعضاء التنظيمات العنقودية وجماعات الغضب -فى الماضى والحاضر- فسوف نستوعب احتمالية أن يصل أتباع «الحسن الصباح» إلى مستوى من الطاعة العميقة، يبرر إقدامهم على عمليات الاغتيال التى قاموا بها، وهم فى حالة غيبوبة عقلية صُنعت على عين «الصباح»!.
نقلا عن الوطن