الأقباط متحدون - فَنُّ الكِتَابَةِ
أخر تحديث ٠٩:١٥ | الثلاثاء ٧ يوليو ٢٠١٥ | ٣٠بؤونه ١٧٣١ ش | العدد ٣٦١٤السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

فَنُّ الكِتَابَةِ

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

(خبرة شخصية)

القمص أثناسيوس چورچ.
كان لوظيفة الكاتب مكانة رفيعة في أيام حياة السيد المسيح على الأرض؛ لذا قال أن : ”كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلاً ربَّ بيت يُخرج من كنزه جددًا وعتقاء“ (مت ١٣ : ٥٢)... فوظيفة الكاتب الكنسي تتعدَى الوظيفة اللاهوتية والشروحات التفسيرية والأدبية والتعليمية؛ لتصير فنية تختص بضبط النصوص ومراجعتها، وإحصاء عدد الحروف؛ حيث كلمة ”كاتب“ في الأصل العبرﻱ تعني ”سوفير“ من الفعل ”سافار“ أﻱ ”أحصَى“، ومنها جاءت كلمة ”سِفْر“ أﻱ ”كتاب“.

والكتابة في عمومها هي صياغة الكلمة مطبوعة بروح بصمة الكاتب وخبرته؛ التي تحيك قماشة؛ نسيجها إبداعًا يلمس عقل وقلب القارئ، وتصير في جملتها معبِّرة عن هوية الكاتب... تعكس صورته وخصوصيته وقدرته على التعبير، وخبرته الوجدانية والحياتية؛ المصاغة باللغة؛ التي هي المادة الخام للكتابة؛ والتي بشرارة الفكر تُصاغ إبداعيًا؛ لتتجسم في المعاني والأفكار؛ عبر التعبير الطيِّع والمتجدد ببراعة واستهلال حرفي وفني، يتراكم ليختزن ميراث كتابات ثمينة جعلتنا كأقباط أغنياء بأصالتنا التي تكونت بطريقة تراكمية وهَرَمية وقاعدية؛ منذ البدايات الأولى، وهي التي نغترف منها بالاقتباس والنقل الموضوعي؛ الذﻱ نقطف من أزهاره وأثماره، زخمًا روحيًا واختباريًا مدثرًا؛ بيقين ملء بركة الإنجيل.

متعة الكتابة في وجعها وإلهاماتها وومضاتها وتوقدها وعصفها الذهني؛ ومزاحمة أفكارها التوليدية؛ التي تجعل الكاتب، كلما قرأ ما كتبه يجده جديدًا، ولا يقوَى على إعادة كتابته مرة أخرى؛ حيث فصحة الإلهام ومَلَكة البلاغة... متعتها في رسالتها ومخاضها وتوصيلها؛ متعة ترصُّ في داخلنا إمتاعًا وإقناعًا وإشباعًا وربحًا لوزنة العقل والقلب؛ حتى ينطق القلم وينطق وراءه الكثيرون، معرفةً واقتناعًا وتنويرًا وتبصيرًا.

ولفن الكتابة مذاقه ونكهته على خلفية كل كاتب، شعورًا وخبرةً واختبارًا؛ يعبّر عنه في مرآة خزانة المعاني ورَجَاحة الألفاظ ورصّها في مكانها وأشكالها ومواضعها، وفي معايرة الكلمة بمعيارها؛ ثم تنقيحها وإتقانها وتدقيقها.. إذ أنه فَنٌ لا يتوقف عند كونه تحصيل معلومات؛ لكنه تدقيق وإفراز روحي؛ قبل أن يكون فكريًا، وهو أيضًا أصداء للخبرة الشخصية والمنهجية التي تحتوﻱ الكاتب، وتنضج كتابته بمعايير أعماق المعنى والدلالات، وفعل حياتها ومعايشتها بامتياز، مع تدفق الخبرة الحية بتراثها البنيوﻱ المحكم، لتكون صيرورتها نافعة تلمس الاحتياج الواقع.

ولا يمكن أن نغضّ الطرف عن الأهمية القصوَى للغة؛ التي هي المادة الخام في مشروع الكتابة؛ حيث أنها كائن حي يتطور على الدوام؛ كما تتطور الكائنات الحية، وتطوُّرها يحقق معاصرتها في الاتصال؛ حتى لا تكون لغة (خشبية) أو (محنَّطة) متكيفة مع الواقع... فاللغة على أيَّة حال؛ ليست مقدسة في حد ذاتها؛ لكنها تحتاج إلى التثاقف؛ حتى تصير طيِّعة ومضافة؛ واستخدامها معبرًا بإحتراف جمالي.

لقد عرفنا الكُتَّاب الأوائل؛ وكم كانوا مؤثرين ولهم كتاباتهم التي أثْرَتْ الكنيسة وأغْنَتْ مكتبتها وعلومها.. كذلك الكُتَّاب المعاصرين من أمثال : البابا شنودة الثالث، والأنبا يؤانس، والأنبا بيمن، والأنبا غريغوريوس، والأنبا أثناسيوس، والأنبا صموئيل، والقمص مرقس داود، والقمص منسَّى يوحنا، والقمص بيشوﻱ كامل، والقمص يوسف أسعد، والقمص صليب سوريال، والقمص متى المسكين، والقمص تادرس يعقوب، والقس شنودة ماهر؛ والقس أثناسيوس المقاري. والأرشيدياكون حبيب جرجس، والمقدس يوسف حبيب، والأستاذة إيريس حبيب المصرﻱ، ود. موريس تواضروس، وسليمان نسيم، ووليم سليمان قلادة، ود. وهيب جورجي، والأرشيدياكون رمسيس نجيب، ود. نصحي عبد الشهيد، وكثيرين عوضهم الله بالأجر الصالح السماوﻱ.

لقد صارت لي كتاباتهم نبعًا ونهجًا وحُجّةً ومرجعية معيارية، وكذا أرضية تعليم متسعة، دفعتني إلى خبرة رحلة الكتابة وفنّها؛ الذﻱ بدأتُه منذ خمسة وثلاثين عامًا، مع بدايات عمل ودراسة مجموعة إكثوس الآبائية.. فمِنْ وقتها وإلى الآن اختبرتُ عذاب الكتابة ومُعَاناتها كمَخاض ولادة؛ جعل الكتابة حياتي وفكرﻱ وتنفسي وقضيتي وسلاحي في تطوير واقعي للأفضل؛ كي أدرك ما أدركني لأجله سيدﻱ ومخلص نفسي المسكينة.. فلن يتغير العالم بغير الكتابة؛ وبدون المعرفة الحقيقية نهلك... معرفة الحياة والشركة والالتصاق؛ وتفتيش الكتب التي لنا فيها حياة.

ولعل وجود مشروع الكتابة (اللاهوتية والآبائية)؛ يمنحنا رؤية تساعدنا جميعًا، لنجدد ونبدع وننفتح ونترقَى؛ فلا نكون مستهلِكين فقط؛ لكن مُنتجين أيضًا... نسطِّر إنسانيتنا وإيماننا وعقيدتنا وأخلاقنا السلوكية العملية، ونعكس محاولات السمو بالحرف والكلمة والفكر والمعنى.

إن نجاحنا يكون عندما يصير كل واحد منا نحلةً نشيطة؛ تمتصّ الرحيق لتمتثله وتفرز عسلاً، وأيضًا عندما يكون كل واحد منا (مشروع قارئ)؛ ينطلق متعلمًا في ملكوت السموات المتسع، ويكون لسانه قلم كاتب ماهر (مز ٤٥ : ١).

فكل كاتب ملكوتي ماهر يعرف قيمة الملكوت وعمله؛ ينضم ضمن كتيبة العلم والحكمة التي تخدم قاعدة علم اللاهوت والخلاص والمعرفة السمائية في نبوات العتيقة؛ وفي الأمور المختصة بمسيحنا في جميع الكتب... فهيمًا خبيرًا مؤرخًا حافظًا شارحًا؛ مختبر كنوز كتب البيعة المحفوظة فيها؛ ليجعلها مخبَّأة في الصدور.

www.frathanasiusdublin.com


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter