بقلم: القمص أثناسيوس جورج
كل تدبير رعوﻱ يخضع لمراقبة وإرشاد الروح القدس ، وأمانة الأهداف الروحية التي تنقلنا للحياة الأفضل وللميراث السماوﻱ ، في تدبير برهان الروح والقوة والرضائية ، من دون غرور باطل أو حكمة بشرية.. تدبير يأتي بإرشاد الروح من أفواه القديسين لتسير سفينة النجاة بسلام ويقين ورحمة غنية تفتخر على الحكم وتترفق بالضعفاء.
قاعدة التدبير في الرعاية خالية من الحيلة والاستمالة والإلتواء ، ولا تشمل قصدًا خفيًا ، ولا تتبع موازين ومكاييل مختلفة ؛ لأنها تعالج بإستقامة أمور واقعية من واقع حال الكنيسة وممارستها اليومية ، بعيدًا عن مظنة النفسنة والميول الذاتية وهوائية الصبغة "قوم نفسانيون ؛ لا روح لهم" (يهو ١٩) ، فتستمد محبتها وشرعيتها من الكتب المقدسة أنفاس الله ؛ ومن قوانين الرسل والدسقولية وأحكام المجامع المسكونية وفكر الآباء... متوافقة مع الأصل العام لجوهر التعليم الإلهي ، ومع مبدأ المشروعية واللياقة في القانون والتفسير الكنسي المستقيم.
إننا لم نأخذ روح العالم ؛ بل الروح الذﻱ من الله ؛ لنعرف الأشياء الموهوبة لنا منه (١كو ٢ : ١٢) مُعرِضين عن الكلام الباطل ومخالفات العلم الكاذب وزيغان الإيمان وكل أرواح مُضِلّة ، فنكون جماعة مؤمنين مجتهدين في حفظ وحدانية الروح والدعوة والرجاء الواحد... وانطلاقًا من هذا التدبير ؛ صار بناء الكنيسة معماريًا (كمبنىَ) ، وبناء الكنيسة ليتورجيًا (كمعنىَ) في ترتيب طقوسها وقراءاتها وعبادتها وسَنَتِها الطقسية ومناسباتها ؛ حيث يحكمها التقليد الكنسي ؛ حسبما هو ثابت في كتب البيعة (الخولاجي - الإبصلمودية - القطماروس - الأجبية - السنكسار - الدفنار) وكتب الخدمات والأسرار والرسامات.
كذلك يتضمن التدبير كل الأحكام العامة لقوانين الدرجات الإكليروسية ، بتسميتها ورُتبها ؛ التي تعطىَ على أساس اصطفاء الله ودعوته ؛ وعلى أساس الاستحقاق والأهلية والكفاءة ؛ حسب متطلبات الخدمة الرعوية وتناغم هارمونيتها في فاعلية المشاركة في الأداء ، كلاً في رتبته ؛ لتحقيق شرف وبهاء العمل السمائي.
الذﻱ يستلزم جهاد انسكابي متواصل وتمجيد ذكصولوجي وطهارة تليق بالخدمة المملوءة سرًا ، والمحفوظة بقوة الروح القدس الفاعل في الأسرار... وكلما نفهم ونعي عظمة فكر الكنيسة نتذوق أعماقها ؛ ونصير سفراءها ووكلاء سرائرها الإلهية ، بحتمية حفظ التدبير ؛ وفقًا للجهاد الروحي القانوني وضبط أنفسنا في كل شيء ؛ لنحفظ شمعتنا وأهليتنا الإلهية من الانطفاء والغش والهرطقة والعثرة ، ونجد قبولاً ورضًا عند القدوس ؛ فنربح أنفسنا والذين نخدمهم ؛ لأن كسبنا الروحي يتناسب طرديًا حسب تقدمنا وجهادنا ؛ وبمقدار إلتصاقنا بذبيحة الراعي الأعظم منشئ سر الكهنوت ومصدره ؛ ورئيس كهنة الخيرات العتيدة.
لهذا كله يتم تدبير كنيستنا بإختبار المختارين لكل عمل وظيفي في جسد الكنيسة "يُختَبروا أولاً ثم يتشمسوا" (١ تيمو ٣ : ١٠) ؛ ذلك الاختبار الذﻱ تلازمه الشروط الواجب توافرها ؛ وكأنها مواصفات لإدارة الأفراد "بلا لوم ، ذو وقار ، يدبر بيته حسنًا ، غير مدمن للخمر ، غير طامع في الربح القبيح" (١ تيمو ٣ : ٤) (تيطس ٢ : ٢)... كذلك يُشترط فيمن يُختبر أن يعرف أن يدبر بيته حسنًا ؛ كي يمكنه أن يعتني بكنيسة الله... فلا نتصور أن ينجح أحد في خدمته أو يُرجىَ منه نفعًا لخلاص أنفس أبناء الكنيسة ؛ وهو قد فشل في أن ينجح مع أهل بيته... ثم تأتي المراحل التدبيرية التي ينخرط فيها الكاهن بخطوات الاصطفاء ثم السيامة ثم القسمة ، ثم تقديم تقارير الرعاية وتبادل الخبرات الثرية "ولما رجع الرسل ؛ حدثوه بما فعلوا".
لكن التدبير يقوم دائمًا على مقاييس الموضوعية والمفاضلة غير المنحازة ؛ وعلى الضمير الصالح الخالي من أهواء الأغراض الذاتية ؛ "حتى لا تُلام الخدمة وتعتلّ بالمباحثات وحسد الخصام والرياء والنفاق والافتراء والظنون الردية" (١ تيمو ٦ : ٤) ، حسبما قال معلمنا بولس الرسول "لستُ أشعر بشيء في ذاتي ؛ الذﻱ يحكم فيَّ ؛ هو الرب ؛ لأننا لسنا نكرز بأنفسنا ؛ بل بالمسيح ربًا وبأنفسنا عبيدًا لكم من أجل المسيح" (٢ كو ٤ : ٥)... وذلك بالعكوف على الصلاة والقراءة والوعظ والتعليم وإرشاد التلمذة ودوام الملاحظة والامتلاء بكل علم... فمن الاختيار / للاختبار / للتأهيل ، والمواظبة على تقارير المتابعة (التقييم) ؛ والتدريب كنمط تدبير كنسي ديناميكي ، يتجه نحو الكفاءة ، مقدمًا أُناسًا أمناءَ أكْفاء بأن يعلِّموا آخرين (٢ تيمو ٢ : ٢).
إنه فن تدبير النفع الروحي المعلن في الأعمال والصبر لاستمرارية عمل الخدمة بالنمو والتشجيع وزرع الثقة الخالية من الرياء والتملق والمداهنة ؛ لأننا لا نعمل في كَرْم بشرﻱ لحساب أُناس ، لكن لحساب مدبر الكل "إنجيلنا لم يَصِر بالكلام ؛ بل بالقوة وبالروح القدس وبيقين شديد" (١ تس ١ : ٥) ، قوتنا في إنجيلنا ويقيننا في اتكالنا على المشورة الإلهية التي تجعلنا نقول مع القديس بولس "كما تعرفون أﻱّ رجال كنا بينكم من أجلكم" (١ تس ١ : ٥) ، فتسرﻱ القوة ورائحة العطر الروحي ؛ ويُسمع بوق الكنيسة المرضي لله ؛ راسخين متأصلين ونَامِينَ في كل عمل صالح.
تدبير وعظنا ليس عن ضلال أو دنس أو مكر أو مظاهر خداعة.. تدبير رعايتنا لا بخدمة العين كمن يُرضي الناس ، ولا لاستجلاب مديحهم بالناعمات والتزلف، تدبير كرازتنا وتعليمنا ليست عن تملق أو عِلّة طمع ؛ ولا لطلب مجد الناس ؛ لكن في وقار وخفاء ووعي روحي ؛ حتى لا نفقد أجرتنا ؛ لأن أكثر ما يُفسد عملنا هو مجد الذات ونفختها وطمعها ومحاباة الوجوة ؛ وكأننا نأخذ عوضًا عن رعايتنا ؛ بدلاً من أن نكون ذبيحة وقرابين ؛ نخدم ذاتنا بالإنجيل عوضًا عن أن نخدمه بحياتنا وتكريسنا... رعيتنا هم أسيادنا ؛ نخدمهم بغسل الأرجل ؛ وكما يرضى من أرسلنا ؛ لأنهم إكليل فخرنا وفرحنا ورجائنا ومجدنا عند مجيئه... إذا قبلوا هم بركة ونعمة الخلاص.
إنه عمل يشبه عمل آلام المُرضعة المترفقة التي تربي أولادها ، من غير انتقائية أو ضدية ، ومن غير محبة مجتزأه لكن بمحبة المسيح المجانية غير المشروطة (أتحبني؟!) (اِرعَ غنمي)... فلنحب ولنرعَ بطهارة وبر ؛ لأن تدبيرنا الرعوﻱ لا يُقاس بالأعمال ولا بالإنجازات ولا بالإنشاءات ولا بالخدمات ؛ بل يُقاس بمقدار تحقيق وجود الله في حياة الراعي والرعية ، حيث يحقق الراعي بخدمته كيانًا بشريًا إلهيًا حيًا يشهد وسط العالم بعمل الراعي الصالح ، سندًا وبنيانًا لكنيسة الله ؛ واستعلانًا لمضمونها.