دينا درويش
"ربما كان عليّ أن أكتب كلمة النهاية لأسدل الستار على تاريخ واحدة من أعرق الجاليات اليهودية في الشرق. قد يبدو الأمر مؤلماً. منذ نعومة أظافري كنت أشاهد رحيل الأهل والأصدقاء من دون أن افهم مبرره المنطقي. مع الوقت فهمت كيف عبثت السياسة بحياة الآلاف من يهود مصر من دون أن يكون لقطاع كبير منهم دور يذكر في اللعبة السياسية"، على ما تقول ماجدة هارون (62 سنة)، وهي رئيسة الطائفة اليهودية في مصر والتي تجهز حالياً أكفان العدد المتبقي من أفراد الجالية.
من الوهلة الأولى تبدو السيدة على درجة عالية من الجسارة. فقد قررت أن تسبح ضد التيار داخل الجالية عندما كسرت "الفيتو" المفروض عليهم منذ سنوات من قبل الرؤساء المتعاقبين لتحتفظ بإنتمائها لكل من "مصريتي ويهوديتي". ولأن هارون هي آخر العنقود لطائفة بلغ معظم اعضائها العقد الثامن من العمر، تبدو مهمومة بشؤونهم. تكتم أنفاسها مع اقتراب نهاية كل شهر خوفاً من أن لا تستطيع أن تغطي التسعة آلاف جنيه- وهي ريع ممتلكات الطائفة- مصروفاتها. "تمتلك الطائفة 12 معبداً وعدداً من المدارس يتم تأجيرها، لكن لدينا نفقات متعددة حيث نقدّم إعانات للمسنات لأن معظمهن من الفقيرات، عدا تأمين رواتب الموظفين المتولّين شؤون المعابد".
هارون هي في الواقع واحدة من 9 يهود مصريين ما يزالون على قيد الحياة، وخاضوا من دون شك نضالاً من أجل العيش في مصر في خضم حزمة من القوانين، توالت منذ العام 1948 ولم تكن ترحب بالوجود اليهودي. يشير تعداد سكان مصر الصادر في العام 1947 أن عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في مصر قد بلغ 64165 نسمة. وقد لعب هؤلاء دوراً مهمّاً في تحديث الإقتصاد المصري، كتأسيس الحياة المصرفية والبورصة وصناعة الموضة والأثاث فضلاً عن جهودهم الملموسة في تطوير وسائل النقل. وبسواعد اليهود المصريين أيضاً نهضت السينما المصرية.
يروى جوردون كرامير، باحث في العلوم السياسية في جامعة برلين في أطروحة بعنوان "اليهود في مصر المعاصرة 1914-1951"، أن "العداء إزاء اليهود لم يكن إتجاهاً عاماً، في مصر، بدليل أن الصحافة المصرية قد تنبهت باكراً ودعت إلى التمييز بين الصهيونية واليهودية. لكن ما بين عامي 1949 و1951، رحل ما يصل إلى 20 ألف يهودي من مصر. أما من فضّل البقاء منهم، فقد أخفت كواليس تلك الطائفة كثيراً من معاناتهم الانسانية، بسبب الإزدواجية التي فرضت عليهم".
يبرهن أمير رمسيس، مخرج فيلم "يهود مصر"، على تلك المعاناة ضارباً مثلاً بالمحامي المصري اليساري شحاتة هارون، مؤسس أول جمعية مصرية لمناهضة الصهيونية. "عندما أصيبت ابنته في الخمسينات بمرض سرطان الدم، نصحه الأطباء بالذهاب إلى فرنسا لتأمين علاجها. لكن كل اليهود الراغبين في السفر، في أعقاب العدوان الثلاثي (1956)، كانوا يحصلون على تأشيرة خروج من دون عودة. فكان عليه أن يختار بين تمسكه بالبقاء في وطنه، وبين حياة ابنته. فاختار الخيار الأول، رغم صعوبته".
يشترك ألبرت ايري (85 سنة) مع رمسيس في الرأي، وألبرت رجل أعمال يهودي أشهر إسلامه، لكنه ظل يواجه لفترة طويلة مشكلة انتمائه السابق إلى اليهودية. "صدر قانون في الحقبة الناصرية، مضمونه أن اليهودي يبقى يهودياً، اذا كان معتنقاً هذه الديانة حتى العام 1947. ورغم ان ذلك يخالف كل منطق والشرائع السماوية وأيضاً حقوق الانسان، فإن هذا التشريع كان يستخدم كورقة ضغط"، وفق ألبرت.
وقد إختار البعض أن يكتم عقيدته كي يعيش في سلام. تقول هارون: "لقد حرمنا من أن ندرس تعاليم ديننا في المدرسة. فكل معارفي عن اليهودية هي من حكايات جدتي وأمي. وحرمنا أيضاً من إقامة شعائرنا الدينية خوفاً من البطش بنا. ففي عيد الميلاد الماضي، احتفالاً برأس السنة العبرية، فتح المعبد القابع في شارع عدلي (القاهرة) أبوابه، لكنه لم يستقبل أحداً".
تروي يهودية أخرى- رفضت ذكر اسمها- ان "الأطعمة اليهودية أصبحت صعبة المنال. فقد كان هناك مخابز مخصصة لليهود تقوم بإعداد الخبز اليهودي، الذي يعجن من دون خميرة. لكن آخر هذه المخابز، في محافظة المنصورة، أغلق منذ سنوات مع تناقص أعداد الجالية".
لا يقتصر الأمر على ذلك، فحتى الأفراد ذوي الأصول اليهودية، الذين حاولوا ان يذوبوا في المجتمع المصري، بتكوين أسر جديدة لم يسلموا من المضايقات. تقول نولة درويش، وهي ناشطة حقوقية، وابنة المحامي يوسف درويش الذى اعتنق الإسلام، ووالدة الممثلة المصرية بسمة، "لقد تعرضت ابنتي للهجوم من قبل احدى الصحافيات، عندما قالت لها إذا ابتليتم بجدّ يهودي فاستتروا. وكأن اعتناق اليهودية يعتبر عاراً، رغم تاريخ والدي الوطني الطويل في الحركة العمالية المصرية".
"مِن مصلحة مَن أن يظل المجتمع المصري طيفاً واحداً، لا يتسع للآخرين؟"، هكذا يتساءل اسحق ابراهيم، وهو باحث ومسؤول عن الملف الديني وحرية المعتقد في "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية". "المجتمعات الشرقية تعتبر نفسها كما لو أنها الحارس المسؤول عن العلاقة بين الفرد وخالقه رغم ان ذلك يندرج في اطار النواحي الشخصية في المجتمعات الغربية. لدينا شعور راسخ بأن للأغلبية فقط الحق في إقامة شعائرها، بناء مؤسساتها الدينية وإيجاد قنوات للتعبير، بينما لا يكون للآخر مثل تلك الحقوق"، وفق ابراهيم.
فيما يعتقد أحمد يحيى، أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة قناة السويس، أن "الحكومات المصرية المتعاقبة اتخذت بعض التدابير الحازمة تجاه اليهود، لكن الأمر لم يكن من فراغ. فبعض اليهود المصريين عملوا كطابور خامس كما حصل في خطة لافون (سلسلة عمليات إرهابية قام بها الموساد الإسرائيلي في مصر عقب ثورة 1952). كما ان دولاً كثيرة تلجأ إلى مثل هذه التدابير في بعض الظروف الإستثنائية. فقد اعتقلت السلطات الأمريكية كثيراً من الرعايا الأميركيين من أصول يابانية ابان الحرب العالمية الثانية".
بين مطرقة السياسة وسندان الدين، تبقى حياة الناس هي الأساس. فبالرغم من أن الكثير من اليهود قد التزموا الصمت لفترات طويلة، إلا ان ماجدة هارون تحاول أن تضفي بعض البهجة على نهاية الرحلة. "أتعرض لضغوط كبيرة من قبل اليهود المقيمين في الخارج كي أقوم بتسليمهم سجلات الأسر اليهودية والمخطوطات العبرية، لكنني أشعر في الواقع أن تلك المقتنيات هي جزء من ذاكرة الأمة، ولا ينبغي أن توجد في مكان آخر غير مكتبة الاسكندرية".
نقلا عن المدن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع