إن التاريخ الثقافى لهذه البقعة من العالم يحوى تناقضات وصراعات مصالح موروثة من عصور صراع المذاهب والفرق الدينية على السلطة والإمامة منذ لحظة مقتل عثمان (رضى الله عنه)، والعالم فى أغلبه دخل عصور الحداثة، بينما نحن لا نزال نعيش أجواء الماضى، لا نزال نعيش فى «زمن واحد» منذ مقتل عثمان (رضى الله عنه) وإلى الآن، ولم ندخل بعد «زمناً جديداً»!
وهذا الزمن الذى نعيشه هو زمن «الحروب الطائفية» التى يسكنها ويحركها العقل المغلق، ومن هنا تجدنا فى دائرة مقيتة من التعصب الذى يولّد تعصباً مضاداً فى دائرة جهنمية لا تتوقف ولا تنقطع.
وهذه الدائرة الجهنمية المغلقة تولد الإرهاب بكل الجوانب اللاعقلانية فيه، وبكل ما ينطوى عليه من «تناقضات باطنية» تحركه على مستوى الأفكار وعلى مستوى الواقع. وحتى الآن وعلى الرغم من تجاوز «عوالم الماضى» فى النظام الاقتصادى وتكوين الطبقات الاجتماعية، فإن المجتمع لم يحل بعد تناقضاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولذا فإنه لا يزال ينجب حفّار قبره.
وحفار قبره هو الإرهاب بكل ما فيه من لاعقلانية وغباء وحمق. ويظل الإرهاب -على الرغم مما يبديه من قدرة على التدمير- عاجزاً وقاصراً ومنهاراً، لأنه يدفع إلى فعل كل شىء ولا يتوانى عن أى شىء -مهما كان لا أخلاقياً- من أجل انتصار قضية تسيطر على عقله المغلق.
والغريب حقاً أن الإرهاب يتشح بالدين، على الرغم من أنه -أى الإرهاب- لا يحده سقف أخلاقى من أى نوع، ولا يميز بين ما هو «أخلاقى» و«غير أخلاقى» فى الصراع، ومعه صار مبدأ ميكيافيلى «الغاية تبرر الوسيلة» مبدأ مطلقاً لا يقف عند مستوى!
حيث توجد حالة من العمى وعدم القدرة على التمييز، لأنه ينطلق من موقف شديد التشنج والخطورة من شأنه أن يؤدى إلى أعمال بالغة الشراسة ضد الآخرين، وإلى أعمال انتحارية يروح ضحيتها عادة الإرهابيون أنفسهم!
إنها حالة من اللاعقلانية المطلقة يضحى فيها الإرهابى بكل شىء: وطنه وأرضه وناسه وعرضه؛ من أجل انتصار قضيته! لا مانع عنده من تقسيم بلده، ولا مانع عنده من تشريد نسائها وأطفالها وشيوخها، ولا مانع عنده من هدم المعبد على كل من فيه، لا شىء يهم سوى انتصار «رؤيته للعالم» ووصوله إلى الحكم حتى لو فى أرض منهدمة ووطن مقسم تستحى فيها النساء وتضيع فيه الأعراض، وتتحقق فيه أغراض الإمبريالية العالمية. دائرة متكاملة من «اللاعقلانية» و«اللاأخلاقية» تحكم العمل الإرهابى؛ لأنه لا يراعى أى عُرف، ولا توقفه أى حُرمة اجتماعية أو دينية، كما أنه لا يراعى أى قاعدة أخلاقية تشكل عائقاً فى سبيله، إذ إنه يضع بتصرفه جميع الطرق والأساليب والوسائل الممكنة دون أن يتراجع أمام الصعاب مهما بلغت خطورتها لأنه يلعب «لعبة الموت» فقط، الموت من أجل حياة بعينها يريدها دون غيرها، حياة يكون فيها هو «السيد» وحده.
فكل ما هو «ممكن» عند الإرهابى، هو أيضاً «مسموح به» و«مباح»، والغاية تبرر الوسيلة، وكل ما هو «نافع وفعّال» فهو «ضرورى» و«أخلاقى»! ولا يمكن التخلى عنه لأى سبب من الأسباب خارج مستلزمات مصالحه السياسية التى تهدف بالأساس إلى التغلب على عدو غير حقيقى فى معركة مزيفة! فالمهم أن ينجح، لذلك لا يفرق بين «الدينى» و«اللا دينى»، ولا يميز بين «الأخلاقى» و«غير الأخلاقى»، وبين «القانونى» و«غير القانونى»، وبين «الوسائل الإنسانية» و«الوسائل غير الإنسانية»، مهما بلغت حداً قصياً من العنف اللاأخلاقى واللاعقلانى. فهو لا يتوانى عن ضرب أى هدف يقع على مرمى يده، سواء كان من الممتلكات العامة أو الخاصة، أو كان إنساناً عادياً أو أى شخصية تخالفه الرأى أو جندياً يؤدى الخدمة العسكرية، عندما يرى هو أن عقله المغلق يتحقق فى هذا الفعل.
إن الإرهابى إذ يحاول محو الاضطهاد والشرور والظلم -من وجهة نظره- يعمد إلى الإمعان فى إثارة آلام وشرور أخرى أعمق وأشد.
فباسم أىّ حق وباسم أى أخلاق يتم تدمير وسائل وأسباب الحياة ويموت الأبرياء لمجرد أنهم يخالفون الإرهابى فى الرأى؟ وباسم أى أخلاق لا يأمن الإنسان على نفسه وهو يشعر أنه مهدد بتصفيته جسدياً من مخالفيه فى التوجه أو العقيدة أو الأيديولوجية؟
فى الواقع إن الإرهاب كسلاح فى التعامل مع الخصوم هو سلاح بدائى يفقد قيمه وينقض أخلاقياته بسبب بمبدأ عدم التمييز بين الأهداف والوسائل أو مبدأ الضربة العمياء.
إن محاولة التبرير الأخلاقى والعقلانى للإرهاب بالاستناد إلى الهدف -حتى لو كان نبيلاً ومشروعاً- يعنى جعل «الأخلاق» مجرّد مجاملة للأمزجة والأهواء التى تسيطر على مجموعة بشرية أو طبقة أو حزب؛ وبالتالى تفقد الأخلاق مضمونها وتتصدع قوانينها.
فبديهى إذن صعوبة، بل استحالة، فهم ظاهرة التعصب العقلى والإرهاب الدموى بالنسبة للأخلاق المبنية على المبدأين الرئيسيين: الخير والشر؛ إذ ليس بإمكان هذه الأخلاق أن تبرر التعصب والإرهاب، وإلا وقعت فى التناقض والانتفاء والعبثية. فعلى مستوى الأخلاق تظل المسافة بين «العنف» و«الأخلاق» لا يمكن تجاوزها، كما لا يمكن ردم المسافة بين «الإرهاب» و«مقاصد الدين».
نقلا عن الوطن