عندي مشكلة جوهرية مع إصرار الرئيس السيسي على أن تكون كل خطاباته مرتجلة.. أتفهم أن تكون لدى الرئيس رغبة في محادثة شعبه بطريقة تلقائية لا تجمل فيها، لكنني لا أفهم سر إلحاحه الدؤوب على بناء صورة ذهنية لنفسه ظاهرها أنه رجل تائه يتخبط في كلماته، ولا ينهي جملة بدأها أبدا، ويجرفه الاسترسال بين أفكاره وكأنه يتوقع من كل من يسمعونه أن يكونوا عارفين بما يجول في رأسه وما ينطوي عليه فؤاده.
والارتجال بحد ذاته ليس نقيصة في الخطابة السياسية، لكنه مزعج جدا إذا استولى على الخطابة والخطاب معا.. لا بأس من الخروج على النص أحيانا فهذا أمر يستحسنه الجمهور، لكن الجمهور سيتشكك في جودة العمل كله إذا شعر بأنه يشاهد خروجا على نص لا نص له أصلا.. هذه طبيعة المسرح الذي لا ينفصل المسرح السياسي عنه كثيرا.
صحيح أن بعض الزعماء التاريخيين لدول قريبة اشتهروا باعتيادهم ارتجال خطاباتهم السياسية، ومن بينهم على سبيل المثال الملك الحسين بن طلال والملك الحسن الثاني، لكنه كان ارتجالا يستند إلى إجادة فائقة للغة العربية إلى جانب لغات أخرى، وقد كان أيضا ارتجالا لا ينفي التحضير المسبق للكلمة التي كانت تخرج في النهاية وكأنها قطع أدبية مكتوبة مسبقا ومحفوظة في حالة الملكين الراحلين سالفي الذكر.
وتؤكد الخطابات السابقة للرئيس السيسي أن العلاقة بينه وبين اللغة العربية الفصحى ليست بأفضل من علاقته بجماعة الإخوان، وأن علاقته باللغات الأجنبية أسوأ بكثير من علاقته بجماعة أنصار بيت المقدس، كما تؤكد على أن قدرته على استخراج سطر مستقيم من وسط زحام أفكاره وسحب المواءمات السياسية التي تضطره الظروف معظم الوقت إلى تغييم رسالته وسطها، أمر في عداد المستحيل غير المسبوق.
والنتيجة هنا تتجاوز سماحة المحبين الذين يغفرون العبارات المنقوصة والأفكار المبتسرة والجمل الغامضة والأغلاط اللغوية والمنطقية الفادحة، فالارتجال تصرف يوحي بسمة العشوائية، ويضرب صورة التخطيط والاستعداد المسبق في مقتل.. المسألة ليست قاصرة على رئيس يحبه شعبه ويقبل منه أي طريقة يتكلم بها، لكنها مسألة صورة ذهنية كاملة للدولة والقيادة في الداخل والخارج وبين المحبين والخصوم على حد سواء.
يحب الجمهور في العادة حديث العاطفة، ويستجيب له أكثر من خطاب العقل والمنطق والحقيقة، لكنه في الوقت نفسه لا يضع الكثير من الأمل على المشاعر، ويتوقع دائما قليلا من المنطق المقنع، وهو يقبل قدرا كبيرا من سياقة العاطفة في الخطاب السياسي، لكنه يخاف كثيرا من السياسي الذي ينجرف وراء مشاعره، وهي صورة يقدمها الرئيس السيسي بقوة في خطاباته ومظهره العام.
فهو رجل يغضب بشكل ظاهر ويتلعثم بشكل ظاهر إذا حاول كتم غضبه، ويعلن عن ألمه دون خجل، ويصارح الجمهور بشعوره بالإحباط والمؤامرة والضيق أحيانا كثيرة، وقد تدمع عيناه متى غلبته مشاعره، وهذا أمر يحب الجمهور ظاهره ويستجيب لها – خاصة الجمهور المصري – لكنه ينزعج من باطنه الذي يشي بأن القائد لا يمكنه التحكم في مشاعره، وهي صفة تعيب القرارات وتثير القلق حول تناسب مقدار العاطفة والمنطق في هذه القرارات.
لا يمكن الاعتماد على الارتجال بصورة دائمة مهما كان قبول الجمهور للارتجال، لأن الارتجال يأكل من هذا القبول نفسه، ولا يمكن الاعتماد على جدوى التلقائية وأنها تبني صورة لزعيم مقرب من شعبه ويتحدث كما يتحدثون، فهذا الشعب الذي يريد ذلك بالفعل يتوقع ويريد أيضا أن يكون رئيسه في الحقيقة متزنا ومنظما وحادا ويعرف مسبقا ما في رأسه، ولديه خطة مرتبة لعرضه وإظهاره، وهو ما يتناقض ظاهريا مع مبدأ الارتجال.
والرئيس هو الشريك الرئيسي في عملية بناء صورته الذهنية، وهي صورة كما أسلفنا لا تتعلق بمحبيه فقط، ولكنها تتعلق بصورة القيادة أمام الشعب كله، مؤيدين وخصوم، وبصورة الدولة التي يمثلها الرئيس في ظرف سياسي وأمني دقيق يحتاج أن تصل الصور الذهنية إلى أهدافها بدقة تماما كما يحتاج أن تصل الرصاصات والقذائف إلى أهدافها بدقة.
نقلا عن المصري اليوم