غضب البعض لأننى كتبت ذات يوم أن الإنسان المصرى بلا قيمة فى وطنه.. والواقع أن ردود الفعل التى وصلتنى حول مقالى المثير للجدل راوحت بين إحساسين: الأول يمثل أغلبية من المواطنين غير المرتبطين بمصالح أو انتماءات سياسية.. هؤلاء شعروا أن مقالى مسَّ بداخلهم وتراً موجعاً، واتفقوا معى فى أن مصرنا الحبيبة لن تقوم لها قائمة دون تقديس حياة الإنسان، وهذا ليس بدعة.. لأن الإنسان فى العالم كله هو الثروة والثورة.. أما الفريق الثانى فهاج وماج وأرغى وأزبد واعتبرنى متجاوزاً، حين استخدمت تشبيهاً أدبياً لحياتنا الرخيصة بـ«الصرصار».. وإذا كنت اعتذرت علناً فى لقائى التليفزيونى مع زميلى خالد صلاح عن هذه الاستعارة.. فإن لحظة الاعتذار كانت واحدة من أصدق لحظات حياتى، لأنها نبعت من حرصى على إرضاء مَن لم يفهم الهدف من هذا التشبيه الأدبى.. أما فريق المزايدين ضدى فقد انقسم إلى نوعين: الأول مسئول أو تربطه مصالح مع الحكومة، والثانى باحث ومنقِّب عن دور وموقع و«بلكونة بحرى» تطل على النظام الحاكم الذى يتشكل الآن.. ولأننى أصبحت خبيراً بأولئك وهؤلاء، تعاملت مع الأمر باعتباره رغبة دفينة من البعض لإعلان الولاءات والنفاق حتى لو بالصراخ..!
مبدئياً.. يعرف الكثيرون أننى لم أقف على عتبات حاكم طوال حياتى.. لذا فإن آرائى تنبع دائماً من خوف -أحبه- من حساب ربى، ومن حب لا أتاجر به لبلدى.. ودون ذلك بشر مثلى ومثلك.. نعم يستطيع بعضهم إلحاق الضرر بى أو حتى تدميرى.. ولكن منذ متى والبشر يملكون أكثر مما كتب خالقى وخالقهم.. وربما كانت قناعاتى هذه سبباً مهماً فى نظرة السلطة -أى سلطة- لى باحترام، حتى لو كرهتنى.. يعرف ذلك الرئيس السيسى، ويعرف أيضاً أننى أحبه، مثلما أعرف أنه يحبنى.. والأهم أنه يخشى ربه ويمتلك قدرة فائقة على معرفة اتجاهات البطانة المنافقة التى تريد أن تتحلق حوله.. وربما كان ذلك وراء حفاظه الدائم على وضع مسافات مناسبة تكفل له الإبقاء على توازنه النفسى ونقائه البشرى..!
لماذا أقول هذا اليوم؟!.. سؤال منطقى يضغط عليك حتماً.. سأكون صريحاً معك: أكتب هذا المقال الساعة السابعة من صباح أمس.. لم أنَم بعد.. كيف تغمض عيناى وما يقرب من عشرين مصرياً بسيطاً ماتوا فى عرض النيل ولا يزال البحث جارياً عن آخرين؟!.. قُل لى أنت أى إحساس يراودك الآن ونحن نموت بلا ثمن؟!..
فى ظنى أن الموت المجانى هو نتيجة حتمية للحياة العشوائية.. وفى مصر لا تلتفت الحكومة دائماً لذلك.. وإلا لوضعت ضوابط لكل شىء، حتى لا يموت المواطن البسيط، ثم نشيعه بالصراخ والعويل والتصريحات الجاهزة وثلاثة آلاف جنيه لن يصرفها أهله.. فى الخارج يعيش المرء إنساناً ويموت إنساناً، وفى مصر يعيش المرء «ورقة» ورقماً ويموت بشهادة وفاة دون أن نسأل أنفسنا: كيف عاش فى جحر ومات فى «شربة ميَّه».. كيف قضى حياته تعيساً ولاهثاً وراء طبق فول ورغيفين، وحين أراد إرضاء أسرته بفسحة رخيصة فى النيل، مات وماتوا، لأن المركب يسير فى دولة العشوائية، والصندل الذى صدمه يمرح فى النهر على موجة الإهمال والفساد.
مات الغلابة فى جريمة الوراق، لأننا فى مصر لم نضع نظاماً لنهر النيل.. تماماً مثل الشوارع والطرق والبحر.. فبات طبيعياً أن يفعل كل مواطن ما يريد.. ففى غياب الضوابط والقانون يخلق الشعب دولته الموازية.. يضع قوانينه الخاصة ويطبقها، وحين تقابله الحكومة يضع فى يدها «عشرة جنيه»، فتغمض عينيها وتنصرف، والعشرة جنيهات قد تصبح مائة أو ألفاً أو مليوناً أو ملياراً، حسب المصلحة.. ويموت العشرات فى عرض البحر أو طول النهر أو على الأسفلت أو فى طرقات المستشفيات.. لا فرق.. فالثمن معروف: شهادة وفاة وحزن مصطنع.. وتصريحات وهمية..!
مات ضحايا الوراق لأنهم فقراء.. فلا هم وجدوا مركباً سليماً يتنزهون به فى العيد، ولا المركب المتهالك وجد أحداً يقول له «قف مكانك».. ماتوا مثلما مات آلاف قبلهم.. ولكن الكارثة أن فريق المتحلقين حول الحكومة لا يركبون قطارات الإهمال ولا مراكب الموت ولا يدخلون مستشفيات الفساد.. فكيف تطرف أجفانهم..؟! ولماذا لا يغضبون حين نكتب عن أولئك الذين يموتون وكأنهم ليسوا بشراً..؟! ففى اللحظة التى مات فيها ضحايا الوراق كان هؤلاء جميعاً فى الساحل الشمالى أو أوروبا أو فى القصور الفخيمة واليخوت الأفخم..!
نقلا عن الوطن