الدكتور مصطفى حجازى فى حوار لـ«الوطن» عن المستقبل:
يزن كلماته بميزان الحكمة، يفكر لكى لا يكون جارحاً، يظن أن الفائدة من الكلمات هى أن تبنى، لا تهدم، لا يهتم بالأشخاص، فقط يبحث عن الأفكار، لا ينظر فيمن قال بل ينظر فيما قيل، لا يسعى إلى السجال بل يتعجل النقاش كمن يسرع إلى ساحة يونانية قديمة على رأسها فيلسوف، ساحة نقاش تهتم بقيم الحق والعدل والحكم الرشيد والمستقبل والإنسان، لا يلتفت إلى الماضى إلا بقدر ما يدفع إلى الأمام، ينظر إلى الحاضر بعين الغد، لديه يقين بهذا الشعب، يدرك، أو قل يعتقد، بل قل «يؤمن بكتلته الحية التى يراها توهجت مرتين فى يناير ويونيو».. ما زال يملك رهاناً عليها، ترى فى قسمات وجهه يقيناً بقدراتها وأنها قادرة على الإفصاح عن نفسها، حتى لو حضرت الوثنية السياسية أو المصالح المملوكية، يقطع بأن هذه المصالح المملوكية فى المجتمع «تنتحر» وتقتل طاقة الحلم داخل هذا الشعب، كما يجزم أيضاً بأن الوثنيين السياسيين يظنون أن الناس بين أصابع فضائياتهم أو أجهزتهم أو أموالهم، فإذا كان ذلك كذلك -بحسبه- فليُحيوا ويُميتوا ويهدّئوا ويثوّروا، يحذّر بلا جدال من النغمة الاحتفالية السائدة ويضع المبدأ «الاحتفال مبرر للإلهام ولكن على شىء حقيقى ذى قيمة، أما إذا كان غير ذلك فهو إلهاء».. يبتغى الصالح رغم أنه من وجهة نظرى لن يفلت برأيه من هوس المتطرفين على الجانبين ولا جهل المماليك ولا وكلاء المصالح؛ لأنهم يخشون كلمة الحق ويخافون من سلطان العقل ولا يحبون كل مفكر متدبر ناصح مخلص أمين.. هذه كلماتى وإليكم كلماته.
■ طوال الوقت تركز فى مقالاتك على أسئلة العلم والعقل والحكمة.. هل ترى فى مصر عقلاً وحكمة وعلماً؟
- أعتقد أنه لو لم يكن هناك قدر من العقل وقدر من العلم وقدر من الحكمة لم يكن ليحدث ما حدث فى 2011 و2013، ليس مجرد تغيير نظام سياسى لكن ما أسميه هنا هو «استعادة إنسانية مستحقة فى هذا المجتمع».. ما حدث فى المجتمع إذا أبصرناه ليس مجرد حوادث على الشوارع والأسفلت.. لو شاهدنا بالفعل ماذا حدث داخل المجتمع سنكتشف أن هذا المجتمع بالفعل اختزن قدراً ما من المعرفة والعلم، تحوّل إلى نوع من أنواع الحكمة استشرف بها معايير المستقبل وقرر أنه لا يستطيع أن يحيا إلا على نحو ما هو إنسانى.. كان دافعه فيه حكمة ما، قد تكون لم تنضج بعد، قد تكون لم تنتشر ولم تستشرِ وتصبح المعيار الأعم فى المجتمع، لكنها موجودة ومختزَنة وهو ما يراهن عليه فى المستقبل لأن بغير ذلك سيصبح الأمر مجرد دوران فى المكان.. أو حركة فى الموقع نفسه دون تقدم.. المشكلة الحقيقية أنه كان هناك قدر من الفكر وقدر من العقل وقدر من الحكمة تبادلت أو تجلت فى حركتين كبيرتين للمجتمع، أنبأ قدر العلم والعقل والحكمة فى المجتمع عن نفسه فيهما مقابل رباعية تحاصر هذا المجتمع وما زالت، وهى صراع الماضى والمستقبل، كما أسميها.. والرباعية التى أعنيها هنا هى «القبح والجهل واليأس والجريمة». لو أخذنا كل الظواهر التى تحدث فى المجتمع، هنا تحديداً، أولاً ظاهرة الإرهاب فى جانب ثم ظاهرة تصحر كفاءة موجودة إلى ظاهرة تراجع الأداء المهنى فى كل المهن المصرية الموجودة، إضافة إلى ظاهرة منظومة قيمية سلبية، إلى تفشى الفساد بأشكاله المختلفة.
■ هذا يعنى أن المجتمع تعايَش مع هذا القبح؟
- هناك استساغة للقبح فى المجتمع بأشكاله المختلفة (القبح المادى والقبح المعنوى)، استساغة أن يعيش الناس وسط حالة من القبح المعمارى والمادى مثل التعايُش مع فكرة القمامة وغياب النظافة والتعايش مع الحد الأدنى من الإنسانية الغائبة فيما يسمى «شكل الحياة كما ينبغى أن يكون فى القرن العشرين والحادى والعشرين»، القبح مستساغ وتحول القبح المستساغ مادياً إلى القبح المستساغ معنوياً، بمعنى أن يقبل الناس بالتنازل عن قدر كبير من إنسانيتهم بأن يتنازلوا عن الحرية طواعية.. وأن يقبلوا بأن يتحول العدل إلى منظومة تسمى «إعادة تدوير الظلم»، أى أن يقبل الظلم لغيره ولا يقبله على نفسه، وعلى هذا النحو يسمى العدل «عدلاً»، وتعريف العدل عندنا فى المجتمع وهو تعريف معوج «إعادة تدوير الظلم» وفى هذا نوع من أنواع القبح المعنوى.. فكرة أننا أخذنا القيم الإنسانية كلها وتدنّينا بها، أى قبلنا بأن تكون مجتزأة، أى نتنازل عن الحريات بُغية أن يكون هناك لقمة عيش.. حينما غابت أو تراجعت فكرة الكرامة تراجع معها رغيف العيش.. لأن رغيف العيش الذى نحصل عليه يفترض أنه رغيف عيش لإنسان وليس رغيف عيش لكائن حى، وهناك فارق كبير.. الإنسان يقتله قدر من غياب الكرامة كما يقتله تسمم مادى.. بمعنى أن غياب إنسانيته يجعله بشر دون الإنسانية وبالتالى هو حى على وضع فطرة غير الفطرة التى خُلق عليها.. أى إنه كائن يعيش ولكنه ليس حياً.. ومثلما قال مارتن لوثر كينج «كل إنسان يموت وليس كل إنسان يحيا».. وخصص هنا الإنسان لأنه لديه صفات يحيا بها حتى وإن كان يعيش إنما هو يحيا على نحو آخر وبالتالى فإن القبح المادى والمعنوى يحاصرنا.. والذى يلى القبح، والذى يعتبر فى حالة تبادل معه، هو «الجهل» بأنواعه.
■ هل السبب هنا فى هذا القبح مجتمع أم إدارة حكم وسلطة؟
- الاثنان؛ لأنه تطور علاقة الحاكم بالمحكوم من قبل أن توجد فكرة دولة يتحول فيها الرعية إلى شركاء فى الحكم ولو بالإرادة، يوجد دائماً إرادتان تتنازعان المجتمع، إن جاز التعبير.. هناك إرادة سلطة يقابلها إرادة حكم، أو رضوخ للسلطة أو قبول بها أو تماهٍ فيها.. العلاقة التشاركية موجودة، حتى فى المثل الشعبى الدارج نجد «يا فرعون إيه اللى فرعنك؟ قال ملقيتش حد يردنى».. فى الآخر نجد أن العلاقة التبادلية حتى وإن كان رأس الحكم يملك الحق الإلهى إنما يقابله أنه كان يفترض من الرعية أن يكون لهم دور ما فى قبول أو رفض ما يقوم به هذا الحاكم وهذه السلطة وبالتالى هى علاقة مشتركة.. الجديد فى الموضوع أنه كلما زاد الوعى -ونشير هنا تاريخيا إلى التطور الذى حدث فى شكل الدولة ونتج عنه الدولة القُطرية وبدأ الحق الملوكى الإلهى يتراجع- أصبح لدينا طبقة نخبة حكم تشارك الملوك فى حكمها، وكل ما نراه فى الثورات على مدار التاريخ، بما فيها الثورات المصرية الأخيرة، عبارة عن إشراك طبقة جديدة من الحكام ازدادت اتساعاً وعمقاً.. أنا هنا أفرق بين السلطة والحكم.. زمان كان هناك حاكم له حق إلهى ورعية، هذا هو التعريف القديم، ثم أصبح هناك صاحب سلطة وطبقة حكم تشاركه حتى وإن كانت طبقة الحكم هذه، وقت الإقطاع، النبلاء والإقطاعيين، لكنه فى الآخر هم يشاركونه بقدرٍ ما فى إنفاذ سلطته إلى أن تكون حكماً على المجتمع مع الوقت، وتطور أفكار فولتير وجان جاك روسو ثم الثورة الفرنسية ثم الثورة الأمريكية وفكرة إعلان الاستقلال وما تبع كل هذا أصبح فى تداخل من قطاعات أوسع فى المجتمع وأصبح هناك طبقة حكام جديدة تشمل المفكرين وأصحاب الرؤى وقادة الرأى وأصحاب الأموال والاقتصاد؛ انتقلنا انتقالاً آخر وأصبحت طبقة الحكام أكثر تأثيراً من خلال البرلمانات، والبرلمانات القوية وسقوط الإمبراطوريات فى أوروبا وتحول الكثير من الممالك إلى جمهوريات ثم الوصول إلى طرف آخر وهى فكرة التصور الشيوعى أو الاشتراكى وهو عموم حكم الناس لنفسها وإن لم يأتِ على حقيقته، إنما الجديد الآن فى طبقة الحكام الجديدة التى خرجت فى شوارع مصر فى «2011 و2013» وهو ما أسميه «الكتلة الحية من الحكام»، إنهم شركاء فى حكم هذا البلد ليس فى سلطة ولكن فى حكمه، أى إدارة شئونه من باب الإرادة ومن باب الكفاءة ومن باب القدرة، من يمتلك العقل والحكمة والعلم سيكوّن «طبقة الحكام» وهى التى ستُلزم السلطة أو أى سلطة فى المستقبل بهذا المنهج وألا تتماهى أو تقبل بالقبح شكلاً للحياة ولا بالجهل وسيلة لإدارتها ولا اليأس أن يتحول إلى نوع من أنواع قهر المحكومين وإنفاذ الإرادة عليهم وألا تستسيغ الجريمة.
■ أى جريمة؟
- الجريمة، كما كان يحكم «مبارك».. «مبارك» كان يحكم هذا المجتمع بجريمة اسمها «جريمة الفوضى».. وكان يحكم مصر بثنائية اسمها «ثنائية القهر والفوضى»، ومن أجل استقرار المجتمعات كان يعطى للناس قدراً من حريتها، تمارسه على نحو ما، وتأتى لها هذه الحرية بنوع ما من العدل هى تقبله وتستسيغه وتتحرك فى سياقه.. ويأتى الاثنان (الحرية والعدل) بنوع من أنواع الكرامة يُشعر البشر بحد أدنى من الرضا عليه، وهنا المجتمعات تستقر على هذا النحو.. ومن أجل الوصول إلى هذه الأمور الثلاثة هى «صلاحية أمام مسئولية» أو «حق أمام واجب»، أى أعطى حقاً أمام أن أنفذ واجباً أو يكون لدىّ مجموعة صلاحيات أتحرك بها.. يقابل هذا الأمر فى حكم المجتمعات التى بها قدر كبير من الاستبداد أن يتفرد الحاكم بمحاولة قهر كل ما يتوق إليه المجتمع مثل رغبته فى العدل والحرية والحراك، إذن، المجتمع «هينفجر»؛ لأنه مجتمع إنسانى وليس مجرد آلات.. إذن، ما مساحة الحركة التى يمنحهم فيها قدراً من الحرية وقدراً من العدل وقدراً من التحقق وليس من الكرامة.. وهى نوع من أنواع الفوضى أن يترك المجتمع لذاته.. المجتمع هو الذى يقوم بنوع من أنواع الاحترام الداخلى أو وضع منظومة عرفية لأنواع القيم الثلاثة، أى يعمل منظومة عرفية للعدل يسميها «الواسطة والمحسوبية وإعادة تدوير الظلم» يعمل منظومة عرفية للحرية يكون فى حالة أشبه بـ«مجتمع الفتوات».. ونتذكر رمز «هيباتيا» المقتولة التى هى نموذج للعلم عندما تصور المجتمع أنهم عندما قتلوا العلم فى رمز «هيباتيا» أن المجتمع تقدم. ولم يتقدم المجتمع والدهماء أخذوا المجتمع إلى مسار آخر ولم يرقَ هذا المجتمع ولم يجد نفسه ولم يجد قدرته على التأثير.
■ هل ترى الآن أن العوام هم من يقودون حركة المجتمع؟
- لا.. الدهماء تُركوا لفترة طويلة جداً، وبالمناسبة الدهماء موجودون فى كل أنواع المجتمعات.. الدهماء جزء من المجتمع، بما فى ذلك أكثر المجتمعات رقياً، يوجد دهماء فى ألمانيا التى كانت مسرحاً لأحداث قريبة لم يكن الجميع راضياً عنها والبعض يرضى عنها.. هناك دهماء فى ألمانيا باسم «النازيين الجدد»، الفكرة كيف يكون حجم هؤلاء الدهماء وتأثير قيمهم فى المجتمع ومن يتصدى للتبشير لقيم الدهماء والقيام عليها؟.. أخطر شىء يمكن أن يحدث أن من أودى بألمانيا كدولة أن واحداً مثل «هتلر» تبنى قيم الدهماء حتى وإن كانت بشكل فيه ملمح السلطة والانضباط وقشرة من العلم موجودة فى امتلاك القوة ومعجزة اقتصادية إنما فى النهاية هو يتبنى مكنون قيم الدهماء فى داخله وانتهى الأمر إلى انهيار ألمانيا وتبعه إذلال وعار.. وقيم الدهماء الموجودة فى المجتمع ترتع، يدعمها الجهل.. من يؤسس قيم الجهل فى المجتمع أو يؤكد عليها أو يسمح بها أو الأكثر إثما يستخدمها وسيلةً لإنفاذ إرادته أو سلطته أو دفع المجتمع إلى نوع ما من الاستقرار كما يسمى «الاستقرار الحرج».
■ هل ترى أن هذه القيم سادت فى المجتمع وتغلغلت لدرجة صعوبة حذفها من المعادلة المصرية؟
- لا يوجد شىء اسمه «مستحيل إصلاح شىء» ولكن هناك صعوبة، ولولا ذلك ما كانت هذه المعركة بين الماضى والمستقبل.. جريمة مبارك الكبرى أنه وصل بهذا المجتمع إلى حالة من حالات اعوجاج الفطرة وأصبح المجتمع يتماهى مع فكرة الفساد والقبح والجريمة. هنا هو أوصل المجتمع إلى اليأس، لكن مقدمات الجريمة كما يدفع شخص ما إلى أن يدمن نوعاً ما من المخدرات أو المسكرات هو أن يضعه على أول طريق اليأس فيدفعه إلى الانتحار أو أن يكون مجرماً فى حق المجتمع، ولكن المجرم الأكبر صاحب الإثم الأكبر هو من وضعه على هذا الطريق، ومن يحاصر المجتمع بالقبح واليأس.. ولسنا بعيدين عن حالة نتصاخب ونتصايح عليها وكأننا لا نعلم أنها تحاربنا وتحارب المستقبل، وهى «داعش» فهى تحارب كل المنطقة وكل المستقبل بقيمتين نحن نعمل ضدهما وهما قيمة الأمل وقيمة الكبرياء؛ فـ«داعش» تؤسس هاتين القيمتين بشكل مكتوب حتى وإن كانت تدعى وتقدم أملاً كاذباً، لكن الأمل الكاذب عندها مبنى على أنها فهمت أن المجتمعات لكى تتقدم وترقى تحتاج إلى أمل، إذا أردت أن تقتل مجتمعات فاقتلها بالقبح واليأس أولا وغياب الأمل، إذا أردت أن تحيى مجتمعات حتى لو دخلت فى تحرك أمل كاذب عليك أن تأتى بقدر من الأمل وبقدر من الكبرياء.
■ تعتقد أننا لدينا سلطة ناضجة وجماعة وطنية حية؟
- مسار المستقبل يُنضج الجميع حتى وإن أبى البعض.
■ هذا يعنى أن السلطة والجماعة الوطنية لم ينضجوا؟
- لدينا السلطة، إذا أردنا أن نعرّفها على أنها مؤسسات بيروقراطية؛ فيقيناً لديها أمد لا بأس به لكى تصل إلى درجة النضج المكافئ لنضج «الكتلة الحية» فى المجتمع.. الكتلة الحية فى المجتمع الآن أكثر نضجاً بالتأكيد من مؤسسات الدولة؛ لأنه من غير أن يكون هناك صدمة كبيرة، وهذا أمر ليس فيه خطأ نجلد عليه ذواتنا، لمّا الناس خرجت تنتقد النظام الرأسمالى فى شوارع فرانكفورت وشوارع هونج كونج ونيويورك كانت تنتقد النظرية التى تحكم هذه الدول وتقول لهم إن المعنى الفلسفى لوجود دولة الرأسمالية التى تبشر بالحلم والسعادة أنتم الآن شبه دولة أو لا دولة وبالتالى ليس عيباً أن نقول بالمعنى القانونى يوجد دول ولكن بالمعنى الفلسفى الحقيقى هناك غياب لتحقيق وظيفتها.. نحن فى عام 2011 هذا ما أعلنه الناس فى الشارع وفى 2013 هذا ما أعلنه الناس فى الشارع أن ما تبقى لدينا بالمعنى القانونى هو «دولة» ولكن المعنى الفعلى لقيام الدولة بدورها ليس فقط دور الرعاية المباشر بمعنى أن تطعم وتكسو، بل فكرة أن تعطى للمواطن مساراً لحلم أن تؤكد له أنه يملك فى هذا المكان ليس بالضرورة جغرافيا فقط لكن يملك حلماً يدافع عنه ويترقى من خلاله، هذا المعنى وهذا هو ما عبر المصريون عنه بأمور تبدو أنها أمور قيمية وبالتالى ما زلت أصر على أن النضج الكامل سيأتى حين يغلب المسار القيمى على المسار المَرافقى والتأسيسى لفكرة أن الحلم مادى.. الحلم فى هذا الوطن وأى وطن آخر وما سأقوله ليس من عندى لكنه أمر معروف، فعندما جاء شخص مثل مهاتير محمد وهو يبنى دولة بالمعنى الحقيقى وليس القانونى فقط، دولة من لا شىء بما فيها من مجتمع بالأساس هويته مبددة ما بين ماليزيين وهنود وآسيويين، كتب 9 تحديات، التزم بوضع تصور دولة جديدة، شىء اسمه «كبرياء وطنى مستحق»، إذن ما نوع المَرافق التى تبنى على «كبرياء وطنى مستحق» يبقى أمر يبنى فى داخل المواطن.. يتكلم أيضاً عن كلمة تسمى «مواطنة ماليزية»، يتحدث أيضاً عن حلم اقتصادى ماليزى، كلها أمور قيمية فى داخل الفرد، هو يتحدث عن الإنسان أولاً وأنه أساس هذا الاقتصاد؛ فهو يبنى إنساناً أولاً.
■ وبالنسبة لنا كمصريين؟
- كتبت فى مقال لى كيف وصل هذا المجتمع إلى استساغة القبح وحالة قبول الجهل ودفعنا كمجتمع إلى اليأس دفعاً ثم دفع بعض الأفراد منه إلى الجريمة كما يحدث على جانب التطرف فى كل أحوالنا؛ لأننا قبلنا.. وهذه مسئولية المجتمع، المجتمع قبل ونظر لفكرة أن هذه القيم ليس لها ضرورة فى الحياة، أى «هى الحرية بكام؟» و«هى الكرامة هتأكّل عيش؟!»، العدل ضرورة والمجتمع تشكك فى هذه القيم وتنازل عن حريته طواعية أحياناً.. وقلت هذا بوضوح إننا كنا عوناً لجلادينا على أنفسنا أكثر مما كان جلادونا مسئولين عن مصائبنا لكن هذا لا يخلى مسئولية أى جلاد لأن القدرة مناط تكليف كل من يملك قدرة أى سلطة.. السلطة تكافئ قدرة وتساوى تكليفاً والتكليف يكون على معايير القدرة والمطلوب وليس على معايير المتاح، والأمر نفسه فى حال الحكام، والحكام الذين أقصدهم هم الطبقة القادرة على التأثير وتغيير الواقع من خلال أدوات ليست بالضرورة قراراً فى موقع سلطة فى دولاب الدولة لكن أن تؤثر فى المجتمع وتحكم فيه وتحكم حكماً تبادلياً فى السلطة بوضع معايير وقبول معايير وتحديد شكل الحلول وأنت تكون قيّما على معيار كل هذه الحلول.
■ تتحدث هنا عن فكرة بناء الإنسان فى حين نعتمد دائماً على بناء الخرسانة.. هل تعتقد أن هذه الخرسانة تستطيع أن تبنى نظاماً يستطيع أن يحرك شعباً للأمام؟
- قولاً واحداً: «لا»؛ لأننا مررنا بتجربة مبارك الذى أراد لنا أن نفهم أن الأرقام تتقدم على الأحلام لأنها أثقل وأهم وأن الأشخاص أهم من الأفكار، هذا إذا حاولنا أن نحلل مسارات مبارك فهو عندما كان يتحدث عن حلم كان الحلم يأتى فى شكل أرقام، وحين يتحدث عن أفكار كانت تغيب الأفكار ويأتى بأشخاص يتماهون مع الأرقام التى ليست بالضرورة تعبر عن أحلام الناس وبالتالى مبارك، وقد كان متسقاً مع ذاته جداً عندما سئل عن مشروع قومى لمصر قال «الصرف الصحى»، وهذه كارثة.. لا توجد دولة بنيت وأرادت أن تستشرف مستقبلاً بهذه الطريقة من أول ما كتب فى الثورة الفرنسية عن الحرية والإخاء والمساواة.
■ أى إن الخرسانة لا تبنى وطناً؟
- يقيناً هى جزء من ضرورات أن يوجد فى هذا المجتمع مَرافق تعينه ليبنى وطناً.. الوطن معنى وحلم وقدرة على المنافسة بروح عصرية مواكبة لما نحن فيه.. الوطن معناه أن تفهم وتعتنق وتمارس نسقاً معرفياً لعصر إما أن تكون أنت أحد رواده أو على الأقل تكون أحد أبنائه لكن لا يصح أن تكون خارجه. إذن الخرسانة جزء من ضرورات المستقبل ولكن إن لم توضع هذه الخرسانة فى سياق حلم واضح للترقى فلن تأتى بالمستقبل.. بناء قاعدة معرفية وصناعية ضرورة لو فهمنا أن استخدامها لبناء المستقبل.. لنأتى إلى مثال للتوضيح: التعليم لا يعنى الذهاب إلى المدرسة ولكن الذهاب نفسه إلى المدرسة عنصر ضرورة فى التعليم كأن المستقبل هو ما بعد التعليم.. التعليم وسيلة لهدف.
■ أى إنك ترى أن الخرسانة تشبه فكرة الذهاب إلى المدرسة فقط؟
- نعم، أو فى أحسن الأحوال وجود مبنى لمدرسة دون أن يكون لدينا أى فلسفة لنعلم الناس، للأسف نحن فى مصر اختزلنا التعليم كله إلى فكرة اختزال المعلومة ثم وضع المعلومة على ورقة امتحان يدربوننا عليها وينتهى الأمر إلى أن نصل إلى ورقة تشهد لمن لم يتعلم أنه حاصل على شهادة.. عندما اختزلنا التعليم إلى تحصيل معرفى قلنا ليس هناك ضرورة للمدرسة أو اليوم الدراسى يكفينا أن يكون لدينا مركز دروس خصوصية؛ إذن، تم إلغاء التربية بكل ما تعنيه وألغى اليوم الدراسى وتحية العلم وبالتالى ألغى ملمح الانتماء، ألغى أيضاً طابور الصباح فألغى ملمح الانضباط فأصّل ذلك للعشوائية الموجودة فى المجتمع، كما ألغى معه ما يداعب الوجدان مثل الرسم والموسيقى، فهنا تم تغييب الوجدان كله.. إذن الخرسانة لا تبنى إنساناً لأنه لو أن المعلومة بمفردها كانت تبنى إنساناً لم يكن ليذهب مرتادو مراكز الدروس الخصوصية إلى «الإخوان» أو «داعش» طواعية أو فى أحسن الأحوال ألا يكون هناك إنسان منسحب من الحياة وغير قادر على أن يكوّن رأياً نقدياً أو يقدر على الاختيار.
■ هل نحن حالياً فى زمن تسليم عقول الناس لأبواق سياسية ذراعها الأساسية الإعلام؟
- المجتمع حالياً به ثلاث كتل.. الكتلة الأكبر مثلما نقول فى تربية الأطفال هى فى السنوات السبع الأولى فى حياتهم، لاعبْه سبعاً ثم أدبه سبعاً ثم صاحبه سبعاً.. هذا مستوحى من حديث نبوى.. معناه أن السبع الأولى لم يتكون فيها وجدان ولا وعى ولا قدرة على الحكم ولا تحمل المسئولية فلا يستقيم أن يعرف المعايير مبكراً إلا ما خف منها إنما الأساس هو الاحتياج إلى الاحتضان وإلى التطمين والسكينة.
إذن هناك طفولة وعى، وهى مسألة خطيرة، الواجب فى شأنها الحنو أى المداعبة.. عليك أن تحنو على هذه الكتلة وتؤهلها نفسياً وتسكنها لكى تستقبل مهامها بعد 7 سنوات و7 سنوات هنا مجرد تقريب.. المجموعة التى تحتاج إلى حنو لو تصورنا أن يأتى أحد لمجموعة من أطفال الوعى أو أطفال بالمعنى الحقيقى فيدأب على فكرة تخويفهم أو استغلال قلة خبرتهم أو تحويلهم إلى كائنات فى حالة رعب شديد بغية السيطرة عليهم فالإثم هنا يقع على من يدأب على تخويفهم وهذه أول كتلة.
■ وما شأن الكتلة الثانية، أو «السبع» التالية؟
- ثانى كتلة، هى التى توجد فى السبع الثانية، أى مراهقة الوعى، أى الذين لم تكتمل معاييرهم نضجاً ويرون فى أنفسهم القدرة على أن يكونوا أصحاب قرار وهنا تسبق رغبتهم فى تحقيق ذاتهم وأن يكونوا أصحاب قرار على استبيانهم لقاعدة قرارهم ومدى نضجها فينتهى الأمر لديهم إلى حالة من التخبط، ولا يكون بالضرورة التخبط هنا تخبطاً إجرامياً ولكن تخبط ناتج عن قلة خبرة وليس عن سوء نية.. والكتلة الثالثة هنا هى التى نضج وعيها واكتملت ووصلت إلى مرحلة رشد الوعى ويجب هنا التعامل معها بأن نصاحبها مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه الكتلة لا تستطيع أن تنتكس للطفولة مرة أخرى، أى لن تقبل منك تخويفاً دون داعٍ ولا آمالاً دون داعٍ.. أى إننا لدينا كتلة فى المجتمع التى أسميها كتلة الحكام بتفاوت درجاتهم التى أنبأت عن نفسها برفض ما كانت تعيشه من قبل وسميت ما تريد أن تعيشه فى المستقبل الجديد فى دولة لها قيمة ومعنى وقدر من الإنسانية متمثلة فى حرية ما وكرامة ما وعدالة ما.. هذه الكتلة لديها إجابة السؤال وتستطيع أن تقلل من معاناة المجتمع لكنها بحاجة إلى أن تتأكد بأنها صاحبة المسئولية.
■ وهل تتساوى الكتل الثلاث فى المجتمع؟
- غير متساوية، والجديد أنها تتحرك فى شكل ديناميكى أى إن كل يوم هذه الكتل يتغير حجمها لأن هناك أناساً بالضرورة من فيض المعلومات لديها تنتقل من طفولة وعى إلى مراهقة وعى إلى رشد وعى وهناك البعض تجاوز مرحلة المراهقة وصولاً للرشد وهذا ما حدث فى «25 يناير و30 يونيو»، فوقتها حدثت حالة من حالات النضج الآنى.. ولمعرفة حجم كتلتهم يجب أن نعرف أنه فى شأن المجتمعات الأعداد لا تكافئ الأثر ولو قسمنا المجتمع إلى 7 مستويات وعى، هناك مغيبون وهناك مشاهدون وهناك مراقبون، وهؤلاء المراقبون يرون أنهم يستطيعون التغيير لكنهم لا يقبلونه، وهناك أيضاً مشاركون فى كل مجتمع وفاعلون أى يتقدمون بمبادرة فعل وهناك قادة فى كل مجتمع وهناك ملهمون وهم رأس السلم.. كل المجتمعات تحتوى على كل هؤلاء بما فيها المجتمعات الأكثر رقياً فلديها من المغيبين حتى الملهمين، الفارق هنا هو «ما كتلة هؤلاء بالنسبة لحجم المجتمع واحتياجاته؟»، لا يقود المجتمع مائة بالمائة من أبنائه ولا خمسون بالمائة لكن يكفى أى مجتمع نسبة معقولة تستطيع أن تضبط منظومة المجتمع أو تضمن سلامة المجتمع على منظومتها القيمية.. فكل فراغ وانحسار للمنظومة القيمية الصحيحة يقابله تغول من منظومة قيمية أخرى عندما تجد فراغاً أمامها.
■ إذن، ما الحل؟
- أن نحدد نوع القيمة التى ننتصر لها أو نهدرها بفعل ما فى المجتمع أياً كان نوع القضية.. لا توجد حرية فى الحياة غير مؤطرة.. كل الحريات لها إطار، تبدأ فى مكان وتنتهى فى مكان آخر، عبقرية أى شعب وقدرته على أن يمارس أعلى قدر من الحرية أن يصل بهذا الإطار إلى مداه ولكن فى ذات الوقت ألا يتصور أنه لا يوجد إطار.
■ نريد مثالاً؟
- نأخذ الإعلام مثالاً، ثمة فارق كبير بين أن أتحدث عن قضية ما فى شأن نقد لسلطة أو لممارسة أو لجماعة فى المجتمع فمن حق الإعلام -بل يجب على الإعلام- أن يكشف الحقائق وأن يكون عين الناس ومن حق المواطن، وفق تعريف الإعلام «أن يَعلم وأن يُعلم عنه وأن يتعلم»، مع قدر من الترفيه، أما إذا تحول الموضوع من توجيه المجتمع فى اتجاه منظومة قيمية خاصة أو لقتل روح التغيير وقتل روح الحرية فى المجتمع والتعبير عن مصالح الماضى أو حتى الحاضر والمصالح الفئوية فإننى اسميها بلفظ شديد «شوية مصالح مملوكية» يعنى جماعات مماليك.
■ هذه المصالح المملوكية تتحكم فى «الميديا»؟
- أعتقد أهل مكة أدرى بشعابها، «أنتم من تقولون ذلك مش أنا»، رأس المال «بيدور» فى الإعلام فى كل وقت وهناك بعض المنصات يتحكم فيها مصالح مملوكية، وهذه المصالح المملوكية تقتل معنى الوطن وتريد أن تعود بالوطن إلى كونه إقطاعية مملوكية.
■ هل يمكن أن نربط ذلك بما يتردد عن رغبة أجنحة فى السلطة للعودة إلى أوضاع 24 يناير 2011؟
- أولاً، هذا التنوع قبلنا بنتائجه أو بوجوده من الناحية المثالية، كشأن أن نقول مثلاً «بعد كل هؤلاء الأنبياء والرسل لماذا لا يؤمن الناس بوجود الله سبحانه وتعالى؟».. المثالية فى الحكم على مثل هذه الأمور، عايز أقول «فيه قدر من السذاجة، إحنا محتاجين أن نقر بأننا كتلة من البشر، فينا ما فينا يقيناً، سمّها كما تشاء: أجنحة سلطة، بيروقراطية»، البيروقراطية تحولت إلى دين جديد وقد كتبت عنها، يعنى شىء معتنق يجعل النفوس أصلاً غير قادرة على أن ترى ما حولها إلا من خلاله، فهناك من يرى كمن يعتنق ديناً «هذا ما وجدنا عليه آباءنا»، وهناك الوثنية السياسية وتلك الوثنية أسهل فى توصيف الأمور مادياً، يعنى أنت تقول «لا إله إلا الله» هو الغائب الحاضر ولكن بالنسبة للكثيرين هو الغائب، أما الحاضر الذى يقدرونه فهو «هُبل واللات والعزة».
■ هناك أوثان سياسية لدينا؟
- يقيناً، هل نريد أن نتخيل أننا استفقنا فى لحظة فوجدنا أنفسنا فى أرض «يوتوبيا»؟، ثمة فارق ما بين الحلم وأحلام اليقظة، الحلم أن تعرف متى تحلم لإنسان، فمن المعلوم من الحياة بالضرورة أن كل تصور وطرح مثالى إنسانى يقابله من يعاديه أحياناً.
آفاتنا ثلاث، الفقر والجهل والمرض، فغادرتنا حرب 67 ثم 73 وكان الادعاء هو رأس المربع الرابع فى هذه الآفات تركتنا فترة حكم مبارك وقد أورثنا الجهل والادعاء، فكان المجتمع ممسوخاً.
كتبت مقالاً بعنوان «رصف مصر الفصل الأخير على فكرة منظومة الطرق»، الطريق بمفهومه فى المجتمع الذى يحبو على يديه وقدميه، الطريق هو مساحة معبدة لكى ندب عليها، يدب عليها بشر أو دواب، فى هذه الحالة الأرض تفى وتكفى، الطريق منظومة أمن واقتصاد وعدل واستمتاع إذا لم يتحقق هذا فى طريق أنشئ فنحن ننشئ مساحة معبدة لكى ندب عليها فقط فهنا لم يتحقق فيها شأن الطريق حين لم تتحقق العوائد منه، العائد الأمنى أولاً حتى لا يصبح مساحة قتل يومى لأنه فى فلسفة الإنشاء فى البداية لم تكن لأى غرض أنشئ بل أنشأناه بأى كمية من المواد وفى أى وقت كان وبأى تكلفة البداية، فسؤال الكيفية يغلب على السببية، وهنا أؤكد أن المجتمع بالكامل به الكثير من حسن النيات، فى كل أنحائه، فى أروقة سلطته، وفى مساحات حكمه ومحكوميه، ولكن حسن النيات لا يحمى من سوء التقدير، حُسن النيات كأن المجتمع يتحدث وهو حَسن النية يريد أن يتحرك إلى المستقبل وبسرعة فيكون الخلاف هل سنركب القطار أم الطائرة أو الأوتوبيس أو سنمشى، لن يسأل أحد لأى مستقبل نسير وإلى أى اتجاه نكون واحتياجات المسير ونتائج المسير وما سيؤول من المسير ولم يسأل السؤال «إلى أين نذهب؟».
■ إذا سألنا سؤالاً بشأن المستقبل.. فهل نحن مجتمع مشغول بـ«كيف» فقط؟
- أسئلة المستقبل تورثه قدراً كبيراً من التململ أشبه بالنفس اللوامة والنفس المتطلعة ولكن بشكل منهجى، وهذا ما قلته حينما وكلت بالعمل مستشاراً فى المساحة الاستراتيجية فى رئاسة الجمهورية، وما بعدها قلت نحن فى حاجة إلى أربعة مسارات تجيب على أسئلة المستقبل، المسار الأول أن نبدأ جادين فيما يسمى «صناعة عقل مؤسسى» لهذا الوطن والعقل المؤسسى له شروط وأدوات علمية وملامح، أول وأبسط تجليات العقل المؤسسى أن يوجد عقل اقتصادى مؤسسى يسمى ككل دولة ناهضة «مجلس وطنى اقتصادى»، البرازيل سمته «مجلس اقتصادى اجتماعى» لكن له شروط، ولكن الأهم من الشروط المهام والصلاحيات لا يتنازع عليها لأنه عقل للدولة مثل صانعى وجدان هذه الأمة، نجيب محفوظ، يحيى حقى، أحمد شوقى مثلما صنعوا وجدان الشعب المصرى، فكان أقل شىء فعلته سلطة المجتمع أنها أفسحت مساحة لحركة هؤلاء دون أن تصطدم معهم، نحن فى حاجة إلى مجلس اقتصادى يقوم على الاقتصاد له مهام وصلاحيات التفكير بروح العصر وباستشراف نقلات لا يغامر عليها أسقف إلحاح الحاجة، ومن هنا أوضح أن العقل المؤسسى للدولة يستشرف نوع الحلم ابن العصر لهذه الأمة لأنه ليس كل حلم ابن عصره، المسار الثانى هو مسار الأزمة وإدارة الأزمة، نحن فى وطن مأزوم حتى لا يتصور أحد أن العقل المؤسسى بما أنه عقل يحتاج إلى قدر كبير من الروية والهدوء، والإجابة عن الأسئلة بعمق، وألا يكون متأثراً إلا بروح العصر والتزامات هذا العصر وكيف ينتشل هذه الأمة إلى مصاف أو مشارف العصر الجديد بغض النظر عن حالها الحالى، المستقبل أصبح علماً الآن وهناك علم اسمه المستقبليات فهناك فلاسفة يتحدثون فيها وعلماء واستراتيجيون، مستوى العقلية التى تهيمن على المساحة الأولى، التى تسمى العقل المؤسسى، نوعان من التفكير وليس التخطيط من بينهما ولكن التخطيط يلحقهما، التفكير الفلسفى ثم التخطيط الاستراتيجى، عندما ننتقل إلى المسارات الأخرى، التنمية وإدارة الأزمة، فنحن فى وطن مأزوم بالمعنى المادى والمعنوى للأزمة، لدينا أزمة ثقة شديدة فى المجتمع تصل إلى مشارف «البارانويا» التى يمكنها أن تجعل المجتمع يشتعل فى أى لحظة لأى سبب ويحترق داخلياً ويعود إلى الفوضى التى وضع بذورها مبارك، نحن مجتمع لا يثق فى غده أو فى من يحكمه أو فى جاره، هذا الفائض من التوتر لا تستطيع أن تبنى عليه حراكاً للمستقبل لأنه لا بد أن المجتمع يسكن ويهدأ نفسياً وتبنى جذور ثقة من نوع ما، مسار الأزمة يحتاج إلى الإقرار بمدى إلحاح الأزمة وأن نرتبها على النحو المطلوب أن ترتب عليه، فلو تصورنا جدلاً أن مبارك بكامل هيئته من أول الدكتور عاطف صدقى وحبيب العادلى، من أول عصر مبارك إلى آخر عصره، اجتمعوا جميعاً لكى يديروا مصر الآن فى 2015 بنفس أدواتهم وبنفس قدراتهم من وجهة نظرهم القمعية المستبدة والتدليسية والاقتصادية التى لم تخلُ من وجاهة فى حلول اقتصادية ما -سأوضح الجانب السلبى والجانب الإيجابى- لو اجتمعوا فى هذه اللحظة لن يستطيعوا أن يديروا مصر لأن مصر 2015 بها تغير محورى.
■ هل ترى أن هذه الأفكار لم تعد هناك بيئة خصبة لاستقبالها؟
- يوجد الآن طبقة شريكة فى الحكم «طبقة الحكام الجدد» الذين خرجوا فى «يناير ويونيو»، شاءت هى أم أبت أو شاء من فى السلطة أو أبى، هى تشارك فى سلطة الحكم.
■ هل سترسم هذه الطبقة المستقبل؟
- مضطرة، وكل تململ وتأخر فى المستقبل نتيجة أنها لم تستطع أن تقرر لنفسها، أن تقرر أنها تقف على قدميها، وأنها تؤجل الدور المنوط بها لتصورها بأن ليس لها دور لأن هناك من يقف فوقها.
■ وهل تدخّلها سيكون خشناً أم عاقلاً؟
- هذا السؤال سيجيب عنه المستقبل. هى أعقل مما يتصور فى شأنها وقد تكون خشونتها بدرجة جفاء لا تعذر فيها.. ليس بالضرورة الخشونة صداماً.
مبارك بكامل هيئته من عاطف صدقى حتى حبيب العادلى لو اجتمعوا فى 2015 بنفس أدواتهم لن يستطيعوا إدارة مصر لأنها تغيرت
■ هل يمكن للعوام أن يفرضوا كلمتهم على هذا التدخل؟
- سيوطأ له لكن سيبقى له من حمى هذا الوطن، وانتصر له، وأن للوطن رباً يحميه.. يقينى أن طاقة العقل التى أراد الله سبحانه وتعالى أن تتجلى فى المجتمع، لقد قرأنا جزءاً من المستقبل على صفحات التحرير لكننا لا نحب أن نقرأها فنحن نحب أكثر أن نستنيم إلى أحاديث النميمة، «التحرير» كان فيه مستقبل فكل من وُجد فى ميدان التحرير ثائراً متنسكاً متقرباً إلى الله لرغبته فى مستقبل أفضل، وُجد فى اللحظة نفسها على دخول التحرير من كان يقوم بكسر محل تجارى ليسرقه، والدهماء كانوا موجودين أيضاً وأصحاب المصالح الخاصة والمماليك فى قلب الحالة، المماليك يريدون أن يستغلوا هذه الطاقة الإيجابية لصالحهم، هؤلاء المماليك الذين أزيحوا فى 2013، وأنا سميتهم «مماليك التنظيم ومماليك النظام»، أزيحوا فى 2011 ويبقى أى بقية من بقايا مملوكية، المماليك لا يخلون من ثنائية الجهل والكبرياء لأن المملوك دائماً ثقافته ثقافة القوى لا يعتمد على العقل ولديه قاعدة هى «الحكم لمن غلب»، أى إن الشرعية لديه شرعية الغلبة والقوة والقبول بشرعية الغالب، أى «البقاء للأقوى» بمعنى آخر.
■ وماذا يعنى ذلك بالنسبة لهم؟
- هذا المعنى يهيمن على أنفسهم ولا يستطيعون أن يفهموا غيره ولا يستطيعون أن يقرأوا الحياة بدونه حتى وصلت الحالة لدى تنظيم الإخوان إلى درجة من درجات الجنون، لأن التنظيم بمعايير قراءته فى الحياة كانوا يستخدمون تعبيرهم الأثير وهو «التمكين»، أى الغلبة، وهو لا يستطيع أن يفهم أن هناك من لا يقبل بغلبته أو يناطحه غلبته أو أنه فى لحظة من اللحظات سيفقد القدرة على تسيير المستقبل لأنه غلب، وأنه تصور هذا ومبارك أيضاً، مبارك كان يحكم بهذه القاعدة، فالثقافة المملوكية كان مبارك يفعلها مشفوعة بقدر كبير من اللياقة الاقتصادية والتميز فى الأداء فى بعض الأحيان والحرفية ووجوه مقبولة ومحاولات باللحاق بركب العالم فى أمور وكان يغلف صناعته المملوكية بشىء من الرقة.
■ وماذا عن الإخوان؟
- الإخوان أحبوا أن يعودوا إلى نفس الأمور بشكل فج، الاختلاف هنا فى البيئة الحاضنة، فهم يتصورون أن التقرب إلى الله بقتل منظومة القيم، الكثير منهم عندما يظهرون فى وسائل الإعلام المختلفة يقول للناس إنه يتحدث باسمهم، هم يحاولون مخاطبة الجزء المعوج من الفطرة عند الناس لأنها ترى مصلحتها فى أمان فى ظل هذا الاعوجاج، والأخطر هنا شأن العائل الآثم إذا استمر يبنى كل تحركاته وتصوراته بأنه لن يتحرك إلى المستقبل إلا إذا أمِن انتكاس من نضجوا ورشدوا فلن ينتكسوا ولن تأتى حركته للمستقبل ولكن سيأثم ويحجر عليه..
■ ما رأيك فى النغمة الاحتفالية السائدة حالياً؟
- عهدى حتى يكون لكلامى قيمة ويخدم المستقبل؛ دعنا نتحدث عن الفكرة وليس عن الحدث أو الشخص.. وهذه ليست محاولة للالتفاف على السؤال لكنها محاولة للإجابة على السؤال؛ لنستطيع أن نجد لها قيمة العام المقبل ثم بعد المقبل، فكرة الإعلان عن شىء للاحتفال أو الاحتفاء به قيمتها الحقيقية المفترضة أن ترسل رسالة خاصة فى شأن الشعوب والمجتمعات هى إلهام هذه الشعوب بشىء ما، أو -لا قدر الله- إلهاء هذه الشعوب بشىء ما، فتبقى فكرة الاحتفالية فى أى مجتمع فى العالم بين الإلهام والإلهاء.. الإلهام واجب وضرورة لكى تشعل به الهمم وتتحرك نحو هدف حقيقى تستطيع أن تنجز بشأنه، وإذا كان أثر الإلهام الشرط الأساسى لهذه الاحتفالية فسيأتى بقيمة شىء قادر فى ذاته على الإلهام.
■ حتى وإن كان مبرر هذا صناعة أمل سريع؟
- كتبت مقالاً بعنوان «الأمل الرشيد»، وقلت إن هناك من بيننا من يسكر نفسه بالأمل.. ولكن إن لم يكن الأمل أملاً راشداً وسينتج عنه نتائج موضوعية واضحة تسير على خط إنسانى مبرر يبقى فى إطار التمنى فى أغلب الأحوال والتمنى شىء والأمل شىء.. وأخطر شىء أن تستخدم القيم الإنسانية العليا التى تتعامل مع وجدان البشر للهيمنة عليهم أو إلهائهم ونعود مجدداً إلى الوثنية السياسية، فالوثنيون السياسيون يتصورون أن المصريين فى «25 يناير» أو «30 يونيو» كانت قلوبهم بين أصابع فضائياتهم أو أموالهم أو تنظيمهم أو إدارتهم السيادية أو أجهزتهم. والسؤال هنا: مَن يتصور أنه حرّك طاقة الإلهام الحقيقى فى داخل المصريين لكى يرفضوا ما رفضوه؟ هناك أسباب موضوعية يقر بها الجميع بما فيها من فى السلطة الآن بأنه كان يجب أن تزول تلك السلطة منذ 15 عاماً، هذا الكلام قيل.. شكل المستقبل هو الذى حرك وجدان المصريين تجاه رفض ما رفضوه وسيحرك وجدانهم تجاه طلبهم وإلحاحهم على ما يريدون، شكل المستقبل هو أن يقتنعوا بملامح شىء مقنع شأنهم شأن كل البشر. أما إذا كانت القضية هى أن من يملك الأموال والفضائيات والأجهزة والتنظيمات والمؤامرات يستطيع أن يقيم ويُقعد ويحرك ويسكّن ويثوّر ويهدّئ ويُميت ويُحيى؛ فليفعل..
■ كيف ترى المصالحة مستقبلاً؟
- صنّف أى قوة أنت تريد أن تتصالح معها كمجتمع، وأى قوى خائفة من المستقبل لديها مشكلة وستستمر فى حالة صدام مع المجتمع.. المجتمعات لا تتصالح مع من يرتكبون الجرم فى حقها حتى فى حال اليأس، وعندما تحدثنا عن مفوضية العدالة الاجتماعية كنت واضحاً وقلت: «الحقيقة ثم القصاص ثم التحرك بالمجتمع كيفما يريد».
■ ماذا تقصد بالقصاص هنا؟
- القصاص أى العدل.
■ ما الوصف اللائق بما تفعله الآن الإقطاعيات والمصالح المملوكية التى ذكرتها من وجهة نظرك؟
- تستنزف المجتمع وتقتل طاقة الحلم والتغيير فيه، للأسف الشديد وهى تفعل ذلك هى تنتحر بأكثر الطرق الممكنة..
■ كنت بداخل أروقة السلطة فى مرحلة انتقالية وحرجة تحدثت عن هذه الأطروحات فيما يخص إدارة الأزمة كيف قوبلت؟ وهل مهمتك قد انتهت أم أُنهيت؟
- أولاً، أنا كنت فى مهمة وطنية وليس موقع سلطة ومهمتى انتهت اختياراً.
■ هل تمت مطالبتك بالاستمرار؟
- لا.. لكن هذا ليس معناه أنه إنهاء دون الانتهاء، فى خطاب الانتهاء كتبت نصا ما فعلناه فى المهام التى وكلت إلينا وكتبت أننا كنا مؤتمنين على «خارطة مستقبل» بأن تتحقق قاعدتها الأساسية وهى الدستور ثم انتخابات فانتخابات، وإن كان هناك انتخابات بطبيعتها تفضى إلى انتخابات أخرى لانتقال القيادة هذا شأن آخر، لكننا كنا مؤتمنين على إنفاذ خارطة الطريق واستعادة ملامح دولة بالداخل والخارج.. وقلت وقتها إننا فى مرحلة تأسيسية وليست انتقالية، وثمة فارق مهول بين المرحلتين فالانتقال يعنى أنك تنتقل من وضع مستمر إلى وضع مستمر أرقى وأفضل.. لكن التأسيس يعنى أن لديك مشاكل.