د.ماجد عزت إسرائيل
بعدأيام قليلة وبالتحديد فى 6 أغسطس 2015م سيشهد العالم كله عبر ووسائل الأعلام المختلفة حفل أفتتاح قناة السويس الجديدة ،التى تم حفرها فى عام واحد (بدأ العمل بالحفر فى 6 أغسطس 2014- ويتم الأفتتاح بأمر الله فى 6 أغسطس 2015م)،وتعد هذه القناة معين نظير لقناة السويس الرئيسة اتى تم أفتتاحها فى 17 نوفمبر 1869م،وهى التى ساهمت فى تحرير التجارة،فهل تسهم قناة السويس الجديد فى المزيد من النشاط التجارى؟ وهذا ما سوف يتضح لنا فى المستقبل،ولكن الآن علينا تتبع دور قناة السويس الرئيسة فى تحرير التجارة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.
شهد الاقتصاد المصري فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، تغييرات هيكلية لم يشهدها فى النصف الأول من ذات القرن، فى ظل الاتجاه لتحرير التجارة و الاندماج فى السوق العالمية، على إثر معاهدة بلطة ليمان 1838 ومعاهدة لندن 1840 على نحو أثر فى طوائف المهن التجارية كما يتضح فى هذا الفصل.
فلقد تسببت سياسة محمد على الاقتصادية فى إزعاج الرأسمالية الأوربية، إذ لم تتفق مع أفكارها ومصالحها التي كانت تجعلها تنادى بحرية العمل والتجارة، اتساقاً مع مصالح الرأسمالية التي تسعى إلى زيادة الإنتاج عن طريق زيادة الطلب على المواد الخام الأولية وفتح الأسواق أمام بضائعها لتصريف إنتاجها لذلك كان من بين أسباب تصديها لمحمد على الرغبة فى فتح السوق المصرية للإنتاج الأوربي.
وبذلك كانت التجارة إلى جانب التوسع العسكري هى التى أوجدت الخلاف بين مصر وبريطانيا فتزعمت الدول الرأسمالية لإسقاط النظام لذلك لم يكن غريباً أن تتضمن جهود بريطانيا لتحطيم قوة مصر العسكرية فى عصره، توقيع معاهدة بالطة ليمان الشهيرة مع الدولة العثمانية 16 أغسطس 1838.
وتحت جناح تسوية لندن 1840م التى ألزمت محمد على بتنفيذ المعاهدات المبرمة بين السلطات والدول الأوربية (وفى طليعتها معاهدة بالطة ليمان)، توافد الأجانب على البلاد وراح التجار يجوبونها لشراء الحاصلات من المنتجين بعد أن كانوا مضطرين للشراء من الحكومة ،وأدى ذلك إلى تحرير التجارة المصرية بمعنى الحد من تدخل الدولة فى توجيهها، وارتبط هذا بوضع حد لتدخل الدولة فى إدارة الاقتصاد المصري الذى استمر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ومع تولى عباس باشا الأول (1848-1854م) حكم البلاد عمل على الحد من النفوذ الأوربى فى مصر، ورأى فى مشروعات محمد على ما جلب ذلك النفوذ، فمنع الدولة من التدخل فى السوق الداخلية والخارجية لتسهيل نقل البضائع بين أسواقها والشرق الأدنى.
وبعد اغتياله خلفه عمه محمد سعيد باشا (1854-1863م) الذى كان على نقيضه منفتحاً على الغرب متأثراً بتربيته الغربية وبروح الحرية الاقتصادية التى شاعت فى الغرب فى القرن التاسع عشر، فأزال الحواجز التى كانت تعوق حرية التجارة بإلغاء ضريبة الدخولية 1854م، ثم قضى ـ سواء عن اقتناع أو تحت تأثير ضغط الأجانب ـ على البقية الباقية من نظام الاحتكار وسمح للتجار الأجانب بالتعامل مع المزارعين،وأطلق للفلاح الحرية فى اختيار أنواع حاصلاته وتسويقها، وقرر مبدأ تحصيل الضرائب نقداً لا عيناً بإصداره اللائحة السعيدية.
وتجلى تأثره بالحرية التجارية فى حرصه على إزالة قيود الجمارك والموانى فانخفضت رسوم الشحن والتفريغ وكثرت المزادات وحلقات بيع الأقطان، كما أتاح للأفراد حرية الانتقال بعد توفر وسائل المواصلات البرية والبحرية، وخاصة بعد أن استطاع "ديلسبس" فى عام 1854م من اقناع "سعيد باشا" والى مصر بحفر قناة السويس لتربط بين البحرين الأحمر والمتوسط بطول 193كم، مما أدى إلى انتعاش طوائف المهن التجارية ونشاط حركة الصادرات والواردات فاستعادت طائفة التجار الوطنيين مكانتها، وبذلك أصبحت حرية التجارة ضرورة حيوية للمجتمع المصري.
غير أنه كان لإعجاب سعيد بالحرية والحضارة الغربية مساوئه، فقد بدأ صفحة جديدة فى تاريخ مصر الحديث اتسمت بالتدخل الأجنبي، عندما أراد الاعتماد على رءوس الأموال الأجنبية فى تحديث البلاد، ففتح الباب على مصراعيه للتدخل، حتى أصبحت فى عهده محطا للرجال المغامرين والباحثين عن الذهب كما لو كانت كاليفورنيا جديدة حسب تعبير قنصل فرنسا فى ذلك الوقت وبدأ فى مصر عصر الاقتراض من البيوت الأوربية.
وواصل إسماعيل (1863-1879م) الاتجاه نحو حسم تحرير التجارة فأعلن عند اعتلائه العرش عزمه على إدخال الإصلاحات الضرورية على مرافق البلاد، وحقق بعض النجاح فى هذا السبيل، كاستكماله شبكة المواصلات البرية بإمداده خطوط السكك الحديدية فى الوجهين البحرى والقبلى(وقد زاد طولها على الألف ميل)، وأقيمت شبكة هامة للبرق والهاتف زادت أطوال خطوطها على الخمسة آلاف ميل.
وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على اهتمامه بالنقل البرى والبحرى، حيث أصدر أمره إلى حليم باشا فى 29شوال1280هـ/7 إبريل1863م بتسيير السفن بالنيل وربط جنوب مصر وشمالها بالموانى الأوربية ،وقام فى 17 نوفمبر 1869م بافتتاح قناة السويس وبناء الموانى كميناء السويس، وإصلاح بعضها مثل الإسكندرية وإنشاء الفنارات على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط وخليج عدن وإنشاء شركة مصر للملاحة البحرية.
وقد بدا إصرار إسماعيل على تحرير التجارة من خلال مراسلته للصدر الأعظم بتاريخ 8 أغسطس 1869م والتي بدا بها ميله إلى اعتقاد أن إنشاء عدد كبير من المؤسسات المالية العامة، والازدياد فى عدد الأجانب الذين ينزحون إلى مصر للإقامة فى جميع أنحائها حتى حدود السودان للاتجار بكل اطمئنان والحركة الدائمة فى موانى الإسكندرية وبورسعيد ونمو المعاملات مع سائر الأقطار من شأنه أن يعين على ازدهار الزراعة وحرية التجار.
ولإيمان إسماعيل بحرية التجارة، فقد واصل فتح البلاد على مصراعيها أمام الأجانب الذين أخذوا يتدفقون عليها ويعملون بالمهن التجارية فى ظل حرية التعامل بينهم وبين الأهالى مستفيدين من انخفاض الرسوم الجمركية وتنظيم حركة العمل بالجمارك ومستغلين المجالس التجارية والامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة ،ذلك بعد أن اقتنع إسماعيل بأن "التجارة الحرة ستجد فائدتها وستعمل على نشر الرخاء وتعميمه بين جميع الطبقات من الأهالى والسكان".
بهذا أخذت التجارة الداخلية فى الانتعاش كالتجارة الخارجية، إلى حد أن استعادت الإسكندرية مركزها التجارى وفى أوائل عام 1874م عمل إسماعيل على تطوير التجارة، عن طريق تحرير الإحصاءات وإنشاء غرفة تجارية ووضع القوانين التجارية للسماسرة والصيارفة والباعة المتجولين كما قدر الموازين والمكاييل لتطبيقها، لتعدد أجناس الأجانب العاملين بالمهن التجارية وعين رئيساً لقسم التجارة الداخلية وآخر للخارجية وزاد من المعاهدات التجارية كل ذلك ساهم فى تحرير التجارة وفك قيودها، حتى ظهرت مهن تجارية متعددة واختفت آخرى، واحتفظت ثالثة بوجودها.