فى المجتمعات المتحضرة يعرف المحاورون كيف يتفقون على أمور وكيف يختلفون على أمور أخرى، أما فى المجتمعات المتخلفة بصفة عامة فإن المتحاورين سرعان ما يتشاجرون عندما يختلفون. قد لا يأخذ الشجار صورة المنازعة بالأيدى والكلمات ولكن يأخذ صورة الاختلاف الحاد فى الرأى الذى قد يؤدى إلى نوع من القطيعة بين متحاور وآخر والقطيعة النفسية قد تكون أحياناً أكثر وجعاً من الكلمات.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً كتبت مقالاً فى مجلة «العربى»، التى كان يصدرها المجلس الأعلى للثقافة فى الكويت – كتبت مقالاً بعنوان «تعالوا نتعلم كيف نختلف»، والمقال كما يتضح من عنوانه يدور أساساً حول ثقافة الحوار وآدابها ومقدماتها.
وفى تقديرى أن أهم مقدمات ثقافة الحوار المنتج هى الاعتراف بالآخر، وأن هذا الآخر – أياً كان – له مثل ما لى من حقوق وليس من حقى أن أصادر على رأيه مقدماً قبل أن أسمعه. لكن للأسف المر فإن «الآخر» فى بعض مجتمعاتنا يجرى إنكار حقوقه بل ووجوده، لمجرد الاختلاف فى المذهب السياسى أو الدينى أو الإثنى. وهذه كارثة من الكوارث، لأن الناس خلقوا مختلفين لكى يتعارفوا ويتآلفوا لا لكى يتصارعوا ويتقاتلوا.
خذ مثلاً تلك البدعة التى تقسم «بعض» المجتمعات الإسلامية إلى أهل السنة وأهل الشيعة، وبعض أهل السنة ينكر على أهل الشيعة كل حقوق الاختلاف فى الرأى وكذلك يفعل – بل وبصورة أكثر حدة – بعض أهل الشيعة مع أهل السنة، ذلك أن الإسلام عند كل المستنيرين فى الماضى البعيد والحاضر القريب هو إسلام واحد لا يفرق بين سنى وشيعى، ورحم الله الإمام محمد عبده وكثير من شيوخ الأزهر الفضلاء.
وقد يكون السبب المباشر الذى دفعنى لكتابة هذا المقال هو تجربة أعيشها فى الأيام الأخيرة التى أقضيها فى مكان رائع فى الساحل الشمالى وألتقى فيه كل مساء مع مجموعة من الأصدقاء والمثقفين وقد يتيح لى وقت «الإجازة» أن أشاهد بعض برامج التليفزيون، خاصة البرامج التى يجرى فيها حوار حول موضوع معين قد يكون مثيراً للجدل والخلاف.
أما حوارات مجموعة الأصدقاء، التى تلتقى بعد الساعة التاسعة مساء كل يوم وتستمر جلستها إلى قرب منتصف الليل وتدور بنا حوارات كثيرة حول كل شىء فى مصر وبالذات منذ فترة جمال عبدالناصر وحتى الآن ولعل مناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة – ذلك المشروع الرائع الجبار – الذى لا أتصور بتفكيرى المحدود أن تكون جدواه محل اختلاف بين أحد، ومع ذلك نسمع البعض يختلفون حول جدواه بل إن البعض يصل إلى حد أنه كان مشروعاً مكلفاً ولن تكون له جدوى. هناك مجموعة من الناس مهمتها تثبيط الهمم والتشكيك فى كل شىء، مهما كان غير قابل للتشكيك فيه كل ذى عقل مستنير.
جمال عبدالناصر بطل عند البعض، والسد العالى وبداية التصنيع وإيمانه بالعروبة كلها أمور واضحة وتستحق الإعجاب ولكن البعض يراه رجلاً كان يسعى وراء مجده الشخصى وأن كل ما قام به هراء فى هراء.. إلى هذا المدى يجرى الحوار أحياناً إلى حد أن البعض ومنهم من يكون طويل البال جداً لا يستطيع الاستمرار فى الحديث ويترك الجلسة.
وإذا كان هذا هو حال هذه المجموعة المثقفة فإن حال بعض البرامج التليفزيونية أكثر بؤساً وضلالاً.
رأيت أحد البرامج، واسعة المشاهدة، وأوشك بعض المتحاورين فيه أن يمسك بعضهم بتلابيب بعض رغم أن المسألة كانت تدور حول تقييم ووزن أحد حكام مصر السابقين وكان من الممكن أن يتم الحوار هادئاً ويقول كل شخص رأيه بهدوء وينتهى البرنامج على خير ويستفيد المستمعون، ولكن البرنامج انتهى على شر مشاجرة بين المتحاورين.
حقاً تعالوا نتعلم كيف نختلف.
تعالوا نتعلم ثقافة الحوار المنتج.
تعالوا نعترف دائماً بالآخر ولا ننكر وجوده.
والله المستعان.
نقلا عن المصري اليوم