نحن لا نزال أمام الفرق والطوائف العقائدية المتنازعة منذ مقتل عثمان، ونحن لا نزال نأكل على المائدة نفسها التى أكل عليها القدماء، مائدة التنازع حول الأحق بالخلافة من الصحابة الكرام، ومائدة الحاكمية والتحكيم الحرفى، ومائدة التكفير، ومائدة كلمات الحق التى يُراد بها باطل.
نعم، نحن لا نزال نتمسك بكل «الخنادق القديمة» التى تحصنت بها الفرق المتصارعة: الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والروافض، والجهمية، والقدرية، والجبرية، والمجسمة، والمعطلة، والأشاعرة، والماترِيديَّة... إلخ.
ومَنْ يتحصن بخندق لا يمكن أن يرى إلا من زاوية ضيقة ومحدودة، ولا يستطيع أن يرى العالم من «نقطة أعلى» تكشف له أجزاء من المشهد يعجز عن رؤيتها مَنْ يتحصن «تحت الأرض» فى خندق ضيق ربما يحافظ به على سلامة جسده لكنه لا يحافظ على سلامة إدراكه ودقة رؤيته للعالم.
إن علم الكلام القديم لا يزال يحكم عقولاً تعيش جسداً فى عصرنا، لكنها تفكر خارج سياقه؛ فهى عقول مغلقة داخل منظومات الماضى: (الخوارج، الرافضة، المعتزلة... إلخ)، وإن كانت تحمل أسماء جديدة وتتقنع بأقنعة العصر. إنها تستعيد كل المعارك القديمة، معارك الطائفية، وصراع الفرق الدينية، وحروب التكفير والاستحلال. وما زالت تصدر إلى الأجيال الجديدة كل خلافات الماضى على السلطة والإمامة تحت اسم «الحاكمية»، أو غيره، معيدة كل جراح الزمن القديم التى أنهكت الأمة.
وإذا ما طرحت مسألةٌ جديدةٌ نفسها على مائدة فرقاء العصر، فإنهم سرعان ما يستعيدون فيها كل المعارك القديمة مرة أخرى، ويتخندق كل فريق فى خندق من الخنادق القديمة التى كانت تحتمى بها فرق القرون الأولى، مثل: الأشاعرة أو الصوفية أو الفرق الشيعية أو غيرها.
ولم ينجُ من هذا الفخ أحد حتى الحداثيين العرب؛ لدرجة أن بعض أصحاب المحاولات التجديدية من الحداثيين العرب استنجدوا بفرقة قديمة واعتبروها نموذج العقلانية والتحرر، أعنى «المعتزلة»، مع أن عقلانية المعتزلة هى «عقلانية العقل الجدلى» لا «العقل البرهانى»، ومع أن حرية المعتزلة هى «حرية ميتافيزيقية» فقط تناقش علاقة الإرادة الإلهية بالإرادة الإنسانية على المستوى الغيبى، وليست «حرية فكرية واجتماعية وسياسية» على أرض الواقع، وليست حرية تؤكد حق إبداء الرأى وحق الاختلاف وحق الحياة الخاصة... إلخ.
وهل يوجد دليل على ذلك أكبر من قيامهم باضطهاد خصومهم فى الرأى عندما تصدروا المشهد السياسى فى العصر العباسى فى عهود الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق؟
إن الوقائع التاريخية تؤكد أن المعتزلة استبدوا بالحياة الفكرية وخنقوا أصوات معارضيهم عندما كان منهم الوزراء والحاشية والخاصة المقربون من السلطة.
وفى عصر المأمون كان الناس أحراراً فى توجهاتهم، لكن ابتداءً من نهاية عصر المأمون عام (218هـ/833 م)، أجبروا الناس والمحدثين والفقهاء والقضاة والمدرسين على رأيهم فى القول بـ«خلق القرآن»، وهى قضية دخيلة على الإسلام، ولم يتطرق لها القرآن ولا السنة الصحيحة ولا الصحابة، فمقاصد الدين هى عبادة الواحد وتحقيق المصلحة وإعمار الأرض، وليست هى البحث فى: هل كلام الله قديم أم محدث؟!
ومن المعروف أن المعتزلة قالوا بخلق القرآن، بينما دافع خصومهم عن الطبيعة الأبدية القديمة للقرآن، وسعى المعتزلة لهيمنة عقيدتهم على قَصْر الخلافة سريعاً فى أوائل القرن التاسع، وكانت تقريباً أول مرة تحاول فيها السلطات السياسية فى العالم الإسلامى فرض أىّ شكل من الصرامة المذهبية على المجتمع؛ وعقدوا محاكم للتفتيش لاختبار الآراء والمذاهب.
ونتيجة هذه المحاكمات تراجع الكثيرون خوفاً من العقاب، ونزلوا على رأى المعتزلة، عدا أربعة من العلماء وأصحاب الرأى ثبتوا على رأيهم، وهم: أحمد بن حنبل (ولد 164هـ/780م، ببغداد)، ومحمد بن نوح، والقواريرى، وسجادة. حيث تم سجنهم وتقييدهم بالسلاسل الحديدية، ثم تراجع صمود سجادة وبعده القواريرى تحت ضغط الاضطهاد، واستمر أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح. عندئذ تم أخذهما مقيدين بالحديد إلى المأمون فى مدينة طرسوس، لكن فى الطريق توفى محمد بن نوح. وظل ابن حنبل متمسكاً برأيه وحدث له ما حدث، حيث مات المأمون قبل أن يناظر «ابن حنبل»، وتولى «المعتصم» فسجن «ابن حنبل» ثمانية وعشرين شهراً لامتناعه عن القول بخلق القرآن! وأُطلق سراحه سنة 220هـ. ولم يصبه شرٌّ فى زمن «الواثق بالله» بعد المعتصم. ولما توفى «الواثق»، وولى أخوه «المتوكل بن المعتصم»، وكان سُنيّاً، فأكرم الإمام «ابن حنبل» وقدَّمه، ومكث مدة لا يولى أحداً إلا بمشورته، وتوفى «أحمد» فى بغداد وهو على تقدُّمه عند «المتوكل» (241هـ/855م). (انظر كتاب: المحن لمحمد بن أحمد بن تميم التميمى المغربى الأفريقى، أبوالعرب، ص 452 وما بعدها).
هذه هى حرية المعتزلة المدَّعاة. ومن ثم يناقض ذلك النفر من الحداثيين أنفسهم، وهكذا يقعون فى الفخ نفسه الذى وقع فيه التراثيون الذين استنجدوا بالفرق القديمة الأخرى من الخوارج والروافض أو غيرهما!
التراثيون يستدعون فرقاً بعينها، وبعض الحداثيين العرب يستدعون فرقاً أخرى، وهكذا نستمر مرابطين فى حرب الخنادق القديمة التى تخندقت فيها الفرق العقائدية!
أليس هذا سبباً آخر للقول بموت علم الكلام الذى لا يستطيع أن يخرج من الخنادق القديمة؟
نقلا عن الوطن