الأقباط متحدون - ظالمون
أخر تحديث ١٣:٤٩ | الثلاثاء ١٨ اغسطس ٢٠١٥ | ١٢مسرى ١٧٣١ ش | العدد ٣٦٥٦السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

ظالمون

قصّة من دفاتر الماضي
                           
بقلم - زهير دعيم
صعدت راكضًا وأنفاسي درج الطبقات الخمس ، أتلمّس طريقي وسط عتمة حالكة ، والاستغراب يفتّ في عضدي .
ما بال سكان عمارتنا العالية هذا المساء لم يفطنوا الى اشعال كهرباء السلالم ، بينما النور في الخارج يرقص في ساحات وشوارع المدينة الملأى بالبّشر.
وكدتُ أسقط وانا أحاول أن اتلاشى الاصطدام بشبح لإنسان ظهر أمامي فجأة على الدّرج ، فاعتذرت بالعبرية وأنا على يقين بأنّي افعل الصّحيح ، فكلّ سكان عمارتنا من اليهود ، ونحن العائلة العربية الوحيدة التي " تشرّفت " واتخذت لها صومعة في هذه القلعة الحصينة.
وجاءني الردّ رقيقًا هادئًا...لا تهتمّ فأنت لستَ ملومًا ، فالتبعيّة كلّ التبعيّة تقع على خللٍ فنيّ أصاب شبكة كهرباء السلالم قبل لحظات.
وكان صوتًا سمّرني في مكاني ...لعلّها ميخال ؟ ..وما أدراك من ميخال ؟

انّها زينة صبايا العمارة ومحطّ انظار كلّ شباب الحيّ ، وقد أتجرّا وأقول : - وقد تضحك منّي – أنّها كانت مُلهمتي  ومصدر اعجابي وذلك رغم أنا ما انا !!!
صحيح انّها شقراء ذات ضفيرتين ذهبيتين طويلتين ، وذات وجهٍ صبيح وعينين زرقاوين ...وصحيح أنّي عربيّ تتغلّب على بشرتيالسُّمرة الهادئة ، ويسيّطر السواد الفاحم على عينيّ ، ولكنها أيضًا ذات مواقف أثارت وما زالت تثير اعجابي.
فما زلتُ أذكر لأبيها – ولها بوجه خاصّ – كيف انّها وقفت تتحدّى دون معرفة بنا ؛ تتحدّى سكّان العمارة الذين أبدوا معارضة وامتعاضًا من " احتلال " عربيّ لحرمة عمارة يسكنها اليهود ! وأنها وهي العضو الفعّال في " السّلام الآن " كيف أفحمت حتى ذاك الذي عرفتُ لاحقًا أنّه صديقها ، وأفهمته أنّ العرب بشر لهم أحاسيسهم ، ولهم عادتهم الجيّدة ومشاعرهم ، وأنّهم لا يقلّون بشيء عن أيّ شعب آخَر  تحت الشّمس .

حقًّا لقد ملأت عليّ ميخال أحاسيسي ، وامتدحها أهلي كثيرًا ، فما عاد سكّان العمارة ليمتعضوا جهارًا من وجودنا بل راحوا – الّا القسم الأصغر- راحوا وبشتّى الطرق يحاولون أن يُغيّروا الانطباع الأوليّ  الذي لهم في ذاكرتنا ، هذه المحاولات التي كانت تمرّ كالبورصة في ارتفاع وانخفاض ، وتتأثر بما يحدث في القدس وجنين ، فطعن جنديّ من قبل فلسطينيّ يجعلنا منبوذين . ولكن سرعان ما يُبلسم الزمن الحادثات ، فيعود الوضع الى ما يُشبه الطبيعيّ عدا حفنة منهم كانت تستعذب عذابنا وتحاول بشتّى الطرق ان تحتقرنا وتُشوّش حياتنا.
ورغم ذلك فميخال بقيت بعيدة بعيدة ، فليس هناك أكثر منصباح الخير ومساء الخير ان صادف أحدنا الآخر على الدّرَج، وكثيرًا ما صادفتها في مقصف الجامعة أو في المكتبة فتكون منها بسمة قمرية ، وتقابلها منّي بسمة مثلها ليس الّا ...هذا وكنتُ أعذرها دائمًا فصديقها قد تركها بعد موقفها المدافع عنّا إياه، وقد رماها بمحبّة العرب وأنّها تموت عشقًا بهم.  وللحقيقة أقول أنّ انسياب صوتها هذه المرّة أوحى اليّ بأنّها تريد أن تتحدّث معي ، وأن تتصادق .وكان شفيعي الظلام ، فالظلام يمحو الفوارق ويُحطّم حواجز الطبقات ، ويُحرّك المشاعر ويُثير الشَّجَن ، فما كان منّي الّا اعتذرت اليها ثانيةً.
-    عذرًا آنستي ميخال ، ما كان قصدي ، ولكن لعن الله الظلام والظلمة والعجَلة فقد كادتا ان توّرطاني في مأزق مع جارة أقدّرها ....نعم  أقدّرها ، ويعلم الله كم لها في قلوبنا من احترام وتقدير!

-     لا داعي للأسف ، فمال فعلت شيئًا يا سعيد يستوجب الاعتذار ..دع عنك هذا وقًل لي ما هذه العَجَلة ؟
-      كنتُ أنوي احضار هويتي ، فأنّني عازم على مشاهدة فيلم سينمائيّ ، وأخشى أن لا يسعفني الحظّ فأقع عُرضةً للسؤال والاستفسار وطلب الهويّة من شرطيّ هنا او هناك.
-     هل ترفض يا سعيد ان مرافقتي ان عرضتُ عليك الأمر ؟
-     أنا ...؟ معاذ الله أن أرفض ...اذن انتظري حتى أعود بهويتي .
-    لا..لاداعي ، هيّا يا سعيد قبل أن يفوتنا الوقت ..هيّا.
ولم أجد بُدًّا من الاذعان لطلبها ، فلم أذهب لإحضار هويتي ، رغم أنّني كنت أمام البيت ، فقد داخلني شعوربالقوّة ... أليست ميخال؟!!!...فالشرطيّ أيّ شرطيّ لن يجرؤ على طلب هويتي وأنا برفقتها .
وسرنا جنبًا الى جنب ، وأنا أحسّ بأنفاسها الدافئة واسمع آراءها الناضجة، فقد تحدثنا عن الانسانيّة المُعذّبة والطفولة المُشرّدة  والحريّة الضائعة والرومانسيّة الحالمة، فكان لها صولات استدرت اعجابي وتقديري .
 ودخلنا قاعة العرض وأنا أعرف ما سيُعرض أمّا ميخال فأغلب الظنّ لم تكن تعلم ، وتأكدتُ بأنّ مُرافقتها لي لم تكن الا في سبيل تحسين العلاقات ، وفي محاولة لإثبات أنّ التعايُش بين الشّعبين ممكن بل وضروريّ.
 ولكنها وللحقيقة أقول أنّها لم تُفاجأ حين رأت أنّ الفيلم يتحدّث وتدور أحداثه حول الظُّلم والظالمين ، وعن أطفال حُفاةٍ يتلقون بصدورهم العاريّة الرصاص ، فيسقطون الواحد تلو الآخَر في سبيل الحقّ وحفنة تراب وكرامة.
 كنتُ أنظر اليها بين الفيْنة والفيْنة من خلال الظلام وبعد مشهد مؤثّر لشيخ تلقّى الصّفعات والركلات من جندي غاظه ان ينحني هذا الشيخ ليمسح دمًا سال من جبهة حفيده.
 نظرتُ اليها وفي قلبي غصّة ، فإذا بها تبكي ، وحاولتْ أنتخفي في أول الأمر دموعَها ، ولكن محالًا ترجّت ، فهمهمتْ : ظلم..أنّه ظلم !!
وتتابعت أحداث الفيلم واستشرى الظّلم وازدادت أعداد  الأطفال والشّباب الصّرعى من السود فيسبيل العدالة وأبسط الحقوق ، والأبيض المُتمدّن – والذي أخجل به احيانًا – يقهقه وهو يجندل هذا الشاب وذاك الطفل ويصفع تلك العجوز.
أمّا ميخال فلم يعد الخجل من قاموسها ، فهؤلاء الاطفال السود يدخلون الى القلب دونما استئذان ، فأخذت تبكي وتبكي، وارتفع نشيجها ممّا أثار انتباه الحاضرين فربتّ على كتفها معتذرًا.

-    ما كنتُ أدري أن أحاسيسك ستفيض بهذا الشّكل .. اعذريني.
فرفعتْرأسها اليّ من خلال الدّموع وقالت : بربّك دعنا نخرج ، أكاد أختنق ن ويكاد هذا الضّمير الضاجّ في اعماقي يقتلني ، انّه يُعذّبني ويصلبني ، أحسّه سياطًا تلذع بدني وتصلي كياني ...أرجوك دعنا نخرج.
وخرجنا وأنا أعتذر وهي تقول أرجوك لا تفعل هذا ..لا تفعل هذا.
وسرنا الواحد بجانب الآخَر،أنا أحاول أن أغيّر الجوَّ وأن أبعد شبح السود المُتدحرجين من رصاص الجنود ، ولكنني لم أنجح ، فقد ظلّت تُذكرني بهذا الطفل الذي لم يبلغ الخامسة من عمره والذي ألقمه الجندي الجلف رصاصةً استقرت في جبينه وبذاك وبآخَر..
  وفجأة وعلى مفترق طريق واذا بشرطيّ يعترضنا طالبًا هوية صديقتي فاعتذرت ميخال فلفَت الشرطي نظرها الى أنّ حَمل بطاقة الهوية أمر واجب وضروريّ....ثمّ أخلى سبيلها.
 وجاء دوري فاعتذرت بأدبٍ وأكدّتُ له أنّي لن أفعلها ثانية ، فكاد أن يُطلق سبيلي لولا أنّ هاجسًا مشؤومًا دعاه الى السؤال عن اسمي ، فأجبته : سعيد ... أسمي سعيد.

  فانتفض كمن لسعته عقرب وقال : سعيد ؟!!..تقول سعيد ؟ ..
فتضايق ّ وقد راعه أن يسير الذئب والشاة ؛ أن يسير سعيد وميخال.
  لقد أخطأت يا صاحٍ في السّير ليلًا بدون هوية ..انّها مخالفة ..انّها جناية ..ثمّ ما لبث أن دفعني الى السيّارة.
  ووقفتُ مُحاولًا أن أبيّن له أنّ الأمر لا يحتاج الى كلّ هذا فمعي بطاقة تُبيّن بأنّني طالب في الجامعة .
 ولكنه رفض تبريراتي ودفعني مرّة أخرى نحو سيّارة الشرطة...
 هذا وميخال تنظر مشدوهة وكأن أحداث الفيلم السّينمائيّ ما زالت تمرّ أمامها.
  وما أن دُفعت الى داخل السيّارة بعنف حتى وجدتُ ميخال تندفع نحونا وهي تضرب الجيب الحديديّ بيديها الاثنتين وهي تصرخ : ظالمون ..ظالمون ....ظالمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون
   وضاع صوتها في الزّحام
 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter