القمص أثناسيوس جورج
تجلِّي الرب حادث مِفْصَلي في الإنجيل؛ قَبْلَه وفيه وبعده. فقد أظهر المسيح فيه نفسه محقِّقًا ما جاء عنه في الأسفار المقدسة ونبوءاتها عن المسيا الممسوح لأجل خلاصنا، قبل أن يتمم تدبير خلاصنا بالصليب والقيامة والصعود. هناك على جبل التجربة انتصر على المجرِّب وأبطل حُجَجه، وهنا على جبل التجلي أعلن مجده الإلهي الفائق قبل رحلة الآلام. ومن مجد التجلي على الجبل إلى مجد الآلام على رابية الجلجثة، فلا تجلي إلا بالصليب. في التجلي تغيرت هيئته وأضاء وجهه كالشمس؛ وصار كله مُشِعًّا بمجد عظيم، وصارت ثيابه بيضاء كالنور، هيئة وجهه صارت متغيرة؛ وثيابه بيضاء جدًا كالثلج مُبيَضًّا لامعًا. وظهر معه النبيان موسى وإيليا اللذان كانا قد رحلا من العالم منذ مئات السنين؛ ظهر معه إيليا الحي وموسى من عالم الأموات، لأنه هو إله الأحياء والأموات، وكانت سحابة تظللهم، وصار صوت من السحابة قائلاً : "هذا هوابني الحبيب له اسمعوا" (لو ٩ : ٣٤).
كان معه تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا "للتأكيد المثلث للشهادة"، وهم الذين عاينوا عظمته؛ وسمعوا صوت المجد الأسنىَ المُقبِل من السماء. صعدوا ليروا التجلي وتسلقوا القمم حتى تبْيَضّ ملابسهم. ارتقوا ليعاينوا الجمال الإلهي الذﻱ لا يقدر قَصَّارٌ على الأرض أن يُجليه. إنها رحلة رؤيوية كشف فيها الرب عن طبيعته الإلهية النورانية، وعن كيانه المجيد الذﻱ هو عتيد أن يكمله بالآلام، وسيظهر به في مجيئه الثاني الآتي من السموات، المخوف والمملوء مجدًا والدائم إلى الأبد.
أضاء يسوع نفسه لأنه هو شمس البر الذﻱ ينير لكل إنسان آتٍ إلى العالم. وضَمَّ إليه رداءه التي هي كنيسته المجيدة التي جمعها في عُشّ أبيه؛ وبيَّضها وزينها وغسَّلها ومَحَا خطاياها القرمزية لتبيَضّ كالثلج، حوَّط عليها بثيابه التي هي كلام إنجيله "أنفاس الله" لتكون بيضاء نورانية مُشِعّة وطاهرة بنور ضياء كلمته التي لا يقدر أﻱ قَصّارٌ على الأرض أن يبيّض مثلها؛ مهما كانت حكمتهم أو أيديولوجياتهم، لأن كلمته روح وحياة، حيَّة ولامعة.
كان مجد الآلام موضوع حديث ربنا مع الزائرين السماويين. فناموس موسى ونبوءة إيليا والأنبياء؛ قد سبقوا ورمزوا للمرموز إليه. ظهرا النبيان في مجد، وسط السحابة النيِّرة التي هي شَكِينَة الحضرة الإلهية، ومعهم الابن الوحيد رب الناموس والأنبياء، الذﻱ جمَّع ووحَّد في شخصه العهد القديم والجديد بالرسل، والكنيسة المنتصرة مع المجاهدة.
إن مجد التجلي هو استباق لمجد الآلام والقيامة، حيث خروج الرب وسِرّ تدبيره الخلاصي الثمين، وتحقيق الظلال والرموز والنبوءات. حضر الأنبياء كشاهدين لربنا يسوع المسيح، باعتبارهما ممثليْن للناموس والأنبياء، وقد ظهر الآن بر الله بدون ناموس، وها مسيحنا القدوس مشهود له من الناموس والأنبياء، وهو حاضر فيهم بالمجد الذﻱ كان عتيدًا أن يكمله في أورشليم.
إن عيد تجليك يا ربنا هو عيد المظال الحقيقي، ليس مصنوعًا من أوراق الأشجار ليقدم طعامًا بائدًا، لكنه مزيَّن بنور لاهوتك البهيّ غير الفاني، في مظلة دائمة أبدية تثبُت بنعمتك. ومجد سحابتك مُضيء في مجد صوت أبيك، وفي مَعِيَّتك موسى الكليم الذﻱ تكلم عن المستقبل؛ وشهد عن ما هو حاضر كل حين، ذاك الذﻱ في وسطنا قائم وسيأتي، وفي مَعِيَّتك إيليا مركبة إسرائيل وفرسانها الذﻱ حفظتَه مع مركبته، وهو الآن يراك متجهًا نحو الآلام ولك كل العلو والعمق. لقد أعلنتَ مجدك في ميلادك وعمادك وصومك على جبل التجربة، وسلطانك على الشياطين وإقامة الموتى وشفاء المرضى، وسلطانك على الطبيعة كلها، ومجد تجليك هو إعلان لقيامتك.
إن مجد تجلِّيك الذﻱ أظهرته قبل قيامتك موجود أصلاً فيك كل حين، لأنه مجد لاهوتك الذﻱ كان محتجبًا في الجسد، وهو مجد تدبيرك وحضرتك في كنيستك كل حين. لكنه مَخفيٌّ لا يحسه إلا مَن يتبعك ويصعد معك؛ ومَن أردتَ أن تعلنه له. إن مجد ملكوتك الآتي سيَظهَر علانية ويغمر الخليقة كلها، عندما تأتي في نهاية الزمان وتَصِير الكل في الكل. مجدك هذا سيظهر بقوة ليقيم أجساد القديسين، فتتغير إلى تلك الصورة عينها، وتضيء كالجَلَد، وتكون على صورة مجدك؛ عندما نراك ونعاين مجد الحياة والبهجة، وصلاح بر الحق الذﻱ ستعطيه لمن يرتضي حمل صليبك، ولمن لا يترجّىَ له مظالًا هنا، ولمن لا يضع النور تحت المكيال، عندئذٍ تحسبه أهلاً لرؤية مجد ظهورك المجيد، وتُغيِّر شكل جسده لتجعله على صورة جسد مجدك، فصليبك هو طريقنا للتمجيد، مدركين نفقة صعود جبل تجليك.
إن مجد تجليك في كشفك عن المجد الذﻱ فيك والذﻱ لك، بظهورك بهيئتك الحقيقية الأصلية، التي لونها اللمعان والصفاء البرّاق. أظهرته قبل أن تُعلَّق على الصليب؛ لتكمل سر التدبير وآلامك الخلاصية على الصليب المكرَّم (قد اُكمِل). فرأوك ممجدًا كحقيقتك؛ ومعك اتفاق شهادة النبوءات والشريعة التي انحنت لك يا رب الشريعة وواضع الناموس، حيث تقابلا العهدان وتلاثما وصارا في خيمة الإنجيل.
ونحن يا سيدنا بالسجود والصلاة والتبعيّة لك؛ نتلمَّس سِرّ تجليك ممجَّدًا من أجلنا؛ حتى نختبر الارتقاء لملكوتك في شركة ميراث القديسين في النور، حيث يقوم فيك الكل. سحابتك النيرة تغطينا بظلها، وصوت أبيك المفرح يدوّﻱ كي نسمعك ونَقبَلك ونطيعك يا ديان الأحياء والأموات، يا صاحب المظال الأبدية.
إن سحابة مجدك والصوت المسموع سابقا وقبلا في معموديتك، عند نهر الأردن هو نفسه صوت جبل التجلي (هذا هو ابني الحبيب الذﻱ به سُررتُ له اسمعوا). فمضمون المعمودية ومضمون التجلي واحد، والقضية كلها من البداءة إلى النهاية هي فداؤك الثمين وقيامتك. إننا في المعمودية نأخذ العُربون وننال بنوَّتنا فيك، والمشروطة بأن (له اسمعوا)؛ عندما نقبَلك ونستجيب لعمل نعمتك ونسلك في رضاك، فننال محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة وعطية الروح القدس.