بقلم : د.عبد الخالق حسين
لا شك أني استفيد كثيراً من تعليقات القراء لأنها تشكل أحد أهم مصادر الكتابة. وقد خصص العديد من مواقع الانترنت، ومنها صحيفة (الحوار المتمدن)، نافذة خاصة للتعليقات في نهاية كل مقال، وللكاتب الحق في حجب التعليقات أو السماح لها، إضافة إلى ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك و تويتر، ومجموعات النقاش، و رسائل الإيميل.. الخ. وهذه الوسائل مفيدة جداً في التفاعل بين القراء والكتاب، خاصة إذا التزم الجانبان بأدب الحوار، وتمسكا بالمنطق والعقل في الحوار، متوخين الوصول إلى الحقيقة.
ولكن المشكلة أن هذه التقنية المعلوماتية هي سلاح ذو حدين، فيستخدمه القراء الجادون للخير، والأشرار المخربون للشر. فمهمة الكاتب أن يطرح رأيه بموضوع ما، مسنداً بالحجة والمنطق، والمعلومات والتحليل، وعلى المتلقي الذي لا يتفق مع طرح الكاتب أن يتبع نفس الأسلوب إذا ما أراد نشر تعليقه. ولكن المؤسف أن يلجأ البعض إلى الإساءة في استخدام هذه الحرية فينشر بذاءات وشتائم وتسقيط، بدلاً من تفنيد رأي الكاتب بالحجة والدليل. وعلى سبيل المثال علق أحدهم على مقالي السابق الموسوم: (هل حقاً المالكي هو السبب في سقوط الموصل؟)(1)، قال أن أمريكا جندت ستة أشخاص من المصابين بالشذوذ الجنسي اللواطي والحيواني، وأرسلتهم لحكم العراق وأحدهم فلان الفلاني... ويريد من هيئة التحرير ومني السماح لنشر هذا النوع من القذف باسم الديمقراطية وحرية التعبير. وغالباً ما يكتب هؤلاء متخفين وراء أقنعة من الأسماء المستعارة، لأن لا أحد حريص على سمعته وشرفه يسمح بنشر هكذا بذاءات باسمه الصريح. وبالتأكيد أنا أرفض نشر هكذا تعليق، لأني لا أريد أن أجعل من مقالاتي بوابة للقذف والشتائم على الآخرين باسم حرية النشر. فلحرية النشر قواعدها وشروطها، ومن يريد أن ينشر هكذا بذاءات فليفتح له صحيفة على الفيسبوك وباسمه الصريح إذا كان شجاعاً، وينشر فيها ما يشاء، فالإناء بما فيه ينضح.
لا شك أن مقالي المشار إليه أعلاه، كان مثيراً للجدل، لأني تناولت فيه قضية خطيرة كتسليم الموصل إلى الإرهاب البعثي الداعشي من قبل الجيش والإدارة المحلية، وشخصية مثيرة للجدل مثل السيد نوري المالكي الذي وضعته الأقدار ليترأس السلطة التنفيذية لثمان سنوات في أسوأ وأخطر مرحلة من المراحل التاريخية والتحولات السياسية والاجتماعية العاصفة، حيث تراكم المشاكل عبر قرون وانفجارها كالبراكين في مثل هذه الظروف. وقد حصلتْ هذه الحالات في العراق مختلف الأزمنة التي حصلت فيها تحولات اجتماعية حادة مثل في عهد خلافة الإمام علي، وعهد ثورة 14 تموز 1958، بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، وكذلك بعد تحرير العراق من أسوأ فاشية عام 2003.
وقد وصلني عدد كبير من رسائل الإيميل غالبيتها مؤيدة لمضمون المقال، وعدد آخر ضده، مع التزامهم بأدب الحوار، وأنا إذ أشكر الجميع على اهتمامهم بالموضوع من المؤدين والمعارضين، رأيت من المفيد مناقشة بعض هذه الآراء المعارضة. واخترت منها رسالة الصديق الدكتور رياض عبد، لأنها تمثل القاسم المشترك لمعظم الاعتراضات. وهو طبيب استشاري وأكاديمي متنور، مقيم في بريطانيا، أكن له كل الاحترام والتقدير، جاء في رسالته ما يلي:
((عزيزي عبدالخالق...
لا أخفيك أبداً انني قرأت مقالك بمنتهى الاستغراب والتعجب. فمالذي يدعو كاتب علماني ليبرالي عراقي يعيش في الغرب منذ اكثر من ثلاثة عقود، ويعي معنى ان على السياسي تحمل تبعات أعماله ان يدافع عن رئيس افسد حكومة عرفها التاريخ البشري؟ ناهيك عن خسارة العراق لثلث أراضيه تحت حكمه؟ وحتى لو كانت هناك مؤامرات او غيرها، فهذا لا يغير من الامر شيئاً لأن الحكم هو بنتائج الاعمال، والمالكي اقل ما يقال عنه هو انه فاشل بامتياز، وعلى الأغلب هو فاسد بامتياز كذلك (وباعترافه على الشاشات بانه ساكت على الفساد وذلك بتكراره القول ان لديه ملفات فساد لو كشفها سيقلب الأمور رأسا على عقب). وهذا الكلام ليس كلامي وإنما هو كلام العبادي الذي كتبتَ مقالاً مؤخراً تدعو فيه الى دعم حركته الإصلاحية. إصلاح ماذا؟ أليس إصلاح ما تركه المالكي من فوضى وفساد ودولة متهرئة؟ فلا يمكن ان تكون مع رأس الفساد ومع الإصلاح في آن واحد. أنا اعلم بالطبع انك قد نشرت مقالات عديدة دفاعاً عن المالكي ولكن لم أتوقع ان تستمر على هذا الخط مع الاحتجاجات العارمة في العراق والمطالبات الشعبية بالإصلاح الخ. على اي حال انت حر في آراءك. مع تحياتي واحتراماتي)). أنتهى
الجواب: ((عزيزي رياض ....
شكراُ على تعليقك الذي احترمه رغم أني لا أتفق معك فيه، فأنا أيضاً أستغرب من مثقف كبير مثلك، ومختص في الأمراض العقلية، ومتبحر في علم النفس، والفلسفة وعلم الاجتماع، وقراءتك لكل مؤلفات على الوردي، ورغم كل ذلك، تحاول شخصنة مشاكل العراق المتراكمة عبر قرون، وإلقائها على شخص واحد اسمه نوري المالكي. أنا أعتقد جازماً أنه لو جاء أعظم فيلسوف أو عالم في العلوم السياسية والاجتماعية في العالم، ومهما كان مثالاً في النزاهة والإخلاص ليحكم العراق، وبالأخص في الفترة التي حكم فيها نوري المالكي، لما استطاع أن يغير أي شيء من الوضع الحالي، و لكان العراق كما هو عليه الآن. باختصار شديد: العراق بعد كل هذا الخراب الذي تركه البعث الصدامي، غير قابل للحكم وخاصة في النظام الديمقراطي. فالبعث جعل العراق لا يمكن حكمه إلا بالدكتاتورية والقبضة الحديدية، ويحتاج إلى أجيال ليتخلص من هذه الآثار الصدامية المدمرة.
((فالمشاكل التي قام العبادي بإصلاحها كانت موجودة قبل أن يستلم المالكي رئاسة الوزارة، وليست من صنعه، ابتداءً من الإرهاب، والصراع الطائفي إلى المحاصصة، وتضخم الوزارات، وترهل الجهاز الإداري، وتفشي الفساد والرشوة...الخ.
((ربما سترد لتقول: ولماذا لم يبدأ المالكي بهذه الاصلاحات؟ الجواب واضح، لقد حاول المالكي ولكنه فشل لأن كل شيء مرهون بوقته، فلو لا التظاهرات الأخيرة ومطالبة المرجع السيد السيستاني، لما اتخذ العبادي هذه الاجراءات. وحتى في هذه المرحلة فنجاح مشروع العبادي لم يكن مضموناً، لأني كما قلت سابقاً، للفساد جيوش من المافيات والكتل السياسية وحكومات دولية وإقليمية تحميه.
((سُئل غورباتشوف: ما الفرق بينك وبين ألكساندر دوبجيك، فلماذا نجحت أنت في إصلاح النظام الشيوعي وفشل دوبجيك قبلك؟ فأجاب: الفرق 19 سنة. ويقصد بذلك التغيير الذي حصل في الظروف الموضوعية، وعقلية الناس بسبب عامل الزمن.
((لقد ذكرتُ في المقال كل الأدلة المادية المعروفة التي تؤكد صحة طروحاتي، ولكن مع ذلك فشلتُ في إقناعك وإقناع عدد آخر من القراء، ولكن يسعدني أن أقول أن المؤيدين للمقال أكثر عشرات المرات من المعارضين له. والمؤسف أن الخط الفاصل بين الفريقين غالباً هو الخلفية المذهبية والأيديولوجية، إذ كما قال ديفيد هيوم: "العقل في خدمة العاطفة". وقد كتبت مقالاً في العام الماضي بهذا العنوان(2). فالناس ومهما كانوا مثقفين، تحركهم عواطفهم، وليس العقل والمنطق. وهذه مشكلة فلسفية عويصة. ولا أبرئ نفسي من ذلك، ولكني أجهد قدر الإمكان أن أكون مع الحق والمنطق. مع التحيات)).
كما ويؤاخذ البعض على المالكي، أنه هدد بملفات الفساد، ولم يكشفها. وهذا صحيح، ولكن المالكي كشف العديد من هذه الملفات، فهناك الألوف منها في المحاكم الآن. ولكن الملاحظ أنه إذا ما كشف ملفاً انطلق كثير من الكتاب والسياسيين يدافعون عن المتهمين، ويلقون اللوم على المالكي " الفاشل والفاسد بامتياز". كذلك كشف المالكي الدور الإرهابي الذي لعبه كل من طارق الهاشمي، ورافع العيساوي، ومحمد الدايني، وغيرهم كثيرون، فهرب هؤلاء، ومنهم من لقي ملاذاً آمناً عند الشريك في السلطة، السيد مسعود بارزاني، وأسكنهم والمئات غيرهم من داعمي الإرهاب في فنادق خمس نجوم، وجعل أربيل عاصمة الإقليم، مركزاً لعقد مؤتمرات الإرهابيين ومن يدعمهم للتآمر على العراق. هؤلاء هم شركاء المالكي في السلطة المفروضون عليه، لهم رجل في الحكم وأخرى مع الإرهاب، ومدعومين من الدولة العظمى، أمريكا. ولهذا فالمالكي كان مكبلاً بهذه الأغلال، ويريدون منه دحر الإرهاب، وهم يدعمون الإرهاب، وأن يحارب الفساد، وهم الفاسدون ويدعمونه...الخ
كما وبعث لي صديق كويتي، وهو كاتب ليبرالي متميز، مقالاً كتبه وزير عراقي سابق ينصح فيه العبادي بكيفية محاربة الفساد ! وهو يريد أن يؤكد لي كيف كانت حكومة المالكي فاسدة. فتذكرت قصيدة أمير الشعراء، أحمد شوقي:
برز الثعلب يوما في ثياب الواعظينا
يمشى في الأرض يهدى ويسب الماكرينا
فأرسلت لللصديق مقالاً عن فساد هذا الوزير "الناصح الأمين"، وكيف سرق وهو الآن هارب من وجه العدالة. فرد عليِّ قائلاً: "أنا لا أعرف هذا الوزير ولا يهمني، ولكن كيف لا تزال على ثقتك وإيمانك بالمالكي ولا تزال تدافع عن ملكه وحكمه؟"
المشكلة أن الأخوة سامحهم الله يعتقدون أني أدافع عن المالكي. والحقيقة ليست كذلك، إذ لا تربطني به أية علاقة، ولست من الذين يؤلهون الأشخاص معاذ الله، بل أدافع عن عقلي، وأشعر بمسؤوليتي ككاتب أن أحمي القراء من التضليل، لأني أرفض أن أصدق الأكاذيب والافتراءات، والإشاعات السامة وتحميل الرجل مسؤولية الفساد والإرهاب في الوقت الذي نرى فيه أعداءه هم الفاسدين ومع الإرهابيين، وبعضهم أصدر القضاء حكم الإعدام بحقهم مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي ومحمد الدايني وغيرهم كثيرون.
ولكن كتحصيل حاصل جاء الدفاع عن الحقيقة في صالح المالكي. وعندما يُثبت لي هؤلاء بالأدلة المادية المقنعة أن المالكي فاسد وفاشل، سأكون في مقدمة المناهضين له. فلكوني علماني ديمقراطي ليبرالي حد النخاع، أعرف أنه لا يمكن للديمقراطي الحقيقي أن يرفض نتائج صناديق الاقتراع، ويطالب بإزاحة المالكي رغم أنه زعيم أكبر كتلة برلمانية، لأن قادة بقية الكتل ترفضه. ولما فشلوا في إزاحته بالوسائل الديمقراطية عن طريق البرلمان استنجدوا بالشيطان وعصابات داعش. وهذا خطأ فضيع يرقى إلى الجريمة الكبرى. ولا يمكن أن أهادن هؤلاء على حساب وعيي وضميري وأجري مع التيار، فالسمكة الميتة هي التي تطفو على السطح ويجرفها التيار. ففي العراق كل كاتب أو سياسي شيعي يعتبر طائفياً ما لم يشتم إيران والمالكي وغيره من قادة الشيعة من السياسيين الآخرين. يواجه العراق انهيار حضاري وفكري وأخلاقي، نتيجة 50 سنة من حكم الفاشية العربية التي كان البعث مثالها الأسوأ ورأس الحربة. وقد نشرتُ قبل سنوات مقالاً مطولاً عن هذا الخراب البشري في أربع حلقات، اختصرته مؤخراً إلى حلقتين، أدرج رابطه في الهامش.(3).
وآخرون كانوا ومازالوا يتحججون على المالكي أنه لما فشل في معالجة الفساد والإرهاب وسقوط الموصل، كان عليه أن يستقيل كما يحصل في الدول الديمقراطية العريقة. أنا لا أعتقد بصحة هذا الطرح، لأن العراق ليس بلداً مستقراً ومتقدماً وعريقاً في الديمقراطية، خاصة إذا كان الفشل ليس بسببه، فلو آمنا بوجوب استقالة المسؤول عند كل عمل إرهابي، أو فشل في معالجة مشكلة ما، لاحتاج العراق إلى رئيس جديد للحكومة كل ستة أشهر، وهذا يؤدي إلى الفوضى والمزيد من عدم الاستقرار. كما وأعتقد جازماً أن عدم نجاح المالكي لحل المشاكل لم يكن ناتجاً عن عدم محاولته وإخلاصه، وفساده، بل كان ناتجاً عن مقاومة الشركاء في السلطة له ليمنعونه من أي إصلاح. وعلى سبيل المثال، إذا أراد تسليح الجيش، ذهبوا إلى واشنطن ليحرضوا ضد التسليح، فيقول لهم البارزاني أن هذا السلاح سيستخدم ضد الشعب الكردي، ويقول أدعياء التهميش، أن هذا السلاح سيذهب إلى إيران. وإذا ذهب المالكي إلى روسيا للتسليح، رفعوا عقيرة الفساد، وادَّعوا أن المليارات ذهبت هدراً، وطالبوا بالتحقيق، وأخروا التسليح لأكثر من سنة. ثم تآمروا على سقوط الموصل في العام الماضي، فراحوا يصرخون: المالكي هو السبب لأنه مقصر في تسليح الجيش، وهو الذي أمر الجيش بالانسحاب!!. فما الحل في هذه الحالة أيها السادة المعترضون؟ أفتونا يرحمكم الله!
والجدير بالذكر أنه تبين من تحقيقات اللجنة البرلمانية عن سقوط الموصل وكذلك عن سقوط الرمادي فيما بعد، أن انسحاب القوات العسكرية كان بدون أوامر من القائد العام للقوات المسلحة، بل اختفى ضباط الجيش بأوامر قياداتهم الميدانية العليا. يرجى قراءة مقال الدكتور فواز الفواز: [للمرة الثانية نقول ( المالكي قانوناً غير متهم بسقوط الموصل)](4)
وأنا أكتب هذه السطور، بعث لي صديق من قطر الخبر التالي: " اليوم الصفحات الأولي في الصحف القطرية وخاصة (الشرق) مع الخنزيرة (الجزيرة) تحمل المانشيت: (الشعب العراقي يطالب بإعدام المالكي بتهمة الخيانة العظمى)! هذه أمنياتهم وأمنيات فلول البعث وداعش. فهؤلاء هم تلامذة غوبلز، وشعارهم (أكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس وحتى أنت تصدق نفسك). فهل تريدونني أيها السادة أن أصدق هذه الأكاذيب وإلا فأنا طائفي، وأدافع عن المالكي الفاسد وحكمه الفاشل، وأني من وعاظ السلاطين وأتلقى الأجر بالتومان؟ لا ياسادة، أرجو أن تحترموا الحقيقة، ليس من أجل المالكي، بل من أجل احترام عقولكم. فالعقل وحده يميز الإنسان عن الحيوان. يكفي المالكي فخراً أن خصومه هم أعداء العراق والبشرية، مثل السعودية وقطر، و الوهابية التكفيرية، والسلطان أردوغان، وفلول البعث وداعش، وأنا أرفض أن أصطف مع هذا التحالف الوهابي التكفيري اللئيم. ولا أعتقد يشرف أي علماني أن يرى نفسه مع هذا الاصطفاف.
يقال أنه لما سمع معاوية بمقتل الإمام علي، أبلغ أتباعه قائلا: "لقد قُتل علي إثناء أدائه صلاة الفجر". فاستغرب هؤلاء وقالوا: "وهل كان عليٌ يصلي؟". استغربوا لأن إعلام معاوية كان يخدع الناس بأن علياً كافر، وحاربوه على هذا الأساس، وفرض سبه من على المنابر. وما أشبه اليوم بالبارحة، فالأخوة يستغربون أني مازلت لم أصدق الأكاذيب عن المالكي. وحقاً ما قاله جورج أرويل: " قول الصدق في زمن الخديعة ثورة."