كنت لا أطمئن على جودة مقالى إلا إذا اتصل بى تليفونياً على سالم، هذا الكاتب المسرحى الكبير الذي يعد نموذجاً مثالياً وإجابة نموذجية على سؤال: «كيف تغتال موهبة بدون معلم؟»، أن يظل كاتب في قيمة وقامة على سالم محاصراً مسرحياً أكثر من ثلاثين عاماً لمجرد أنه أعلن رأياً مهماً، كان هذا الرأى صادماً، فهى كارثة وجريمة، على سالم كاتب مسرحى موهوب وليس سياسياً صاحب منصب أو كادر حزبى، أعلن أنه مع التطبيع، أخى المثقف اختلف معه وانقده بشدة في مقال أو كتاب، ولكن تفصله من اتحاد الكتاب وجمعية الأدباء وتقطع عيشه وتغلق مسرحياته وتمنع نزول اسمه على فيلم شارك في كتابته وهو «أيام السادات» وتلغى تصوير مسرحياته فتحرم جمهوره من «سهرة مع الضحك وبكالوريوس في حكم الشعوب والكلاب وصلت المطار» وكل مسرحياته القصيرة ذات الفصل الواحد، بل وتلاحق فرق قصور الثقافة وتتهمها بالعمالة والخيانة إذا تعاطت مع مشهد من مسرحياته، بل وعلى المستوى الإنسانى تقطع رجله من أي مقهى يتجمع فيه أصدقاؤه القدامى الذين عزلوه وكأنه جذام بشرى!!، كارثة ومصيبة أن نتعامل مع موهبة بحجم على سالم بهذه الطريقة الدراكولية، هو إحنا عندنا كام على سالم عشان نعمل فيه كده؟!، كان أول تليفون عندما دافعت عنه وقت قرار فصله من اتحاد الكتاب وقلت للمثقفين اليساريين المتحمسين لذبحه وقتها أنتم لا تختلفون عن الإخوان في تعاملكم مع المختلف، قلت له أختلف معك سياسياً لكنى محب لك عاشق لكتابتك، وأعرف أنك في موقفك السياسى صادق مع نفسك ومقتنع ولا تنظر إلى سمسرة أو تجارة أو مصلحة شخصية،
أنا ضعيف أمام المواهب عموماً وأمام موهبتك خصوصاً مهما اختلفت معك، فالمواهب كنوز وآبار نفط بشرية لا يهبها لنا الله إلا على رأس كل مائة سنة مثل المجددين في الدين والتفريط فيها كارثة كونية، ثم ضحكت وقلت بالإضافة إلى أنك دمياطى مثلى وهذا سبب قبلى عنصرى!!، أحس أنك في المسرح أسطى أويمجى لا يشق لك غبار، تنحت كلماتك ومشاهدك بصبر وأناة الأويمجى، تحفر في العمق وتزيل الزوائد وتركز على النمنمات واللفات واللفتات، الفكرة عميقة فلسفية لكنك تلفها بمنتهى الحرفية في ورق سيلوفان ملون طفولى مبهج، كان الرد هو جملة كتبها في مقدمة «أربع مسرحيات ضاحكة من شدة الحزن»، قال «كاتب المسرح عاشق للحياة والدنيا وأعماله في النهاية هي بطاقات دعوة للناس لكى يشتركوا معه في حب الحياة ومعاداة القبح»، عرفت بعد ذلك وتأكدت أن الكوميديان البارع حزين مزمن ومكتئب أعظم، كان صوته الجهورى المسرحى ذو الجرس الموسيقى مهما قهقه بالضحكات ففى نهاية جملته دائماً دمعة ترغب في الانفلات والتحرر من أسر الكبت، عاصرت هذا الاكتئاب في ملامحه قبل أن أتشرف بأن يعرفنى أو يقرأ لى، أثناء هستيريا الهجوم عليه قرر أن يكسر هذا التجاهل وهذه اللامبالاة وأن يخترق حفل الزار الذي قرر فيه الجميع ذبحه معنوياً، بعدما دق على أبواب كل النجوم ليعرض عليهم مسرحيته «الكلاب وصلت المطار»، رفضها الجميع، البعض بتأدب مراعياً العشرة القديمة، والبعض بجلافة وغلظة وقلة ذوق اعتبرها جزءاً من النضال الثورى وخطوة من خطوات تحرير القدس، قرر على سالم أن يقوم ببطولتها مع الفنان إبراهيم يسرى، ولكن المسارح أيضاً أغلقت أبوابها أمامه، لم يجد إلا مسرحاً تختلف نوعية جمهوره تماماً عن نوعية متذوقى فن ومسرح على سالم، العرض كان على خشبة مسرح نجم في الدقى، دخلت المسرحية وكان الجمهور صفين فقط، معظمهم دخل متخيلاً أنها مسرحية مناظر وإيفيهات والبعض دخلها ليستمتع بالتكييف، أصر على سالم على عرض المسرحية، كان المنطق والحدس البسيط يؤكدان على أنها ستفشل وكان يقاوم، رأيته بملابس الممرض الذي كان يؤدى شخصيته في العرض وغلالة الدمع تنزل على مآقيه مع نزول الستارة، وكأنها تكتب مشهد النهاية في مشوار تألق وإبداع هذا الفنان الموهوب الرائع، وكأنه كان يريد تمريض المسرح المريض وجعله يشفى من سرطانه، لكنه فشل في تلك التجربة، وكتب على مسرحياته بعد ذلك أن تظل حبيسة الأدراج ينشرها في مجلات لا تقرأ، وأحياناً يمثلها هواة لا يشاهدهم إلا أهاليهم ومعارفهم.
الآن عرفت سر الشجن الذي كان كريشندو لحن ضحكته المجلجلة، والذى حاول دائماً إخفاءه ولم ينجح.
نقلا عن المصرى اليوم