شيء لابد له من نهاية، هكذا كانت القصة وهكذا كانت الرواية، حين جلست «كارين» وجهًا لوجه مع تلك السيدة التي حملت اسمًا يومها لم يكن هو ما حملته بكل تأكيد يوم وضعت على جسدها النحيل بدلة الرقص وصعدت المسارح أمام أعين المئات أو حتى الآلاف، كانت حكاية «أم محمد» ستبدأ وكانت آذان الهولندية صاغية.. وأشعلت العالمة المعتزلة سيجارة وروت كل شيء.
كان العام 1938، الملك فاروق، ملك مصر والسودان، يعقد قرانه ويقيم حفل زفاف يتحدث عنه الجميع، حتى هذه الفتاة في عمر الرابعة عشر، التي كانت على وشك عقد قرانها هي أيضًا. «تزوجت رجلًا اسمه أحمد، كان مغنيًا وبهلوانًا وكوميديانًا ومونولوجيست وأي شيء تريده أن يكون، وتزوج كثير من النساء، أما أنا فتزوجني كصفقة، كان والدي فلاح في الزقازيق ولم يكن له أي علاقة بمهنة العوالم».
تزوجت المراهقة من أحمد وشدت رحالها وتبعته حيث ذهب، ورويدًا رويدًا وجدت نفسها تنخرط في مهنة العوالم يومًا بعد الآخر، كان عليها أن تساعد زوجها، «لم يكن لدينا المال، كنا نأكل الفول، بدأت العمل في هذه المهنة لمساعدة زوجي، لكني أحببتها بسبب كل الفنانين الجيدين الذين رأيتهم في حفل زفاف الملك فاروق».
مرت الأيام وصاحبة الـ14 عامًا تتنقل مع زوجها ترقص هنا وهناك وبدأت حياتهما تأخذ شكلًا مستقرًا، حين اكتشفت مفاجأة كبرى لم تكن لتخطر على بالها، «اكتشفت أن زوجي متزوج من ثلاث نساء أخريات وكنت أنا الرابعة، كنت الأصغر، حينها أصبحت الحياة صعبة، حملت في ذلك الوقت أيضًا وتلخبطت الحياة أكثر، نصحني العوالم الكبار بالصبر، ولم أرد أنا أن أجلب له العار».
تقبلت الزوجة المراهقة الأمر الواقع، وعادت لحياة العوالم بقوة أكبر، «كنا نعمل في كل مكان، أعياد وأفراح وموالد، كنا نركض من على مسرح فرح إلى المولد، كنا نعمل حتى في غُرز، أحيانًا كنا نرقص على مسارح وأحيانًا أخرى حفاة على الأرض كما في الموالد، هكذا كنا نبني بيتنا حجر بحجر، وفي نهاية الليلة يستفيد صاحب القهوة والموسيقيين ونحن كذلك، وفي أيام كنا نقوم بما نسميه البرعدة، وهو أن نقف بالخارج أمام باب المحل والصنجات (الصاجات) في أيدينا نلعب بهم لنجذب الرجال للدخول، أما حين يمتلئ المكان فنلعب بالداخل، ماتينيه وسواريه».
كانت الحياة تبتسم للفتاة المراهقة، العمل كثير وبدوره المال يكثر، كانت التذكرة التي تساوي قرشًا تباع بخمسة وحتى خمسة عشر، وكان الإقبال لا يقل، فالكل يرغب في مشاهدتها، وتحولت ابنة فلاح الزقازيق لنجمة لها بريقها، من يستطيع أن يطفئ بريق النجمة؟ سؤال ربما راودها حينها فقط الإجابة لم تكن لديها، لكنها أتتها لاحقًا.. إنه الزمن.
سافرنا إلى كل مكان، الجنوب والريف والبحر الأحمر، أي مكان كان يحوي عمل وطعام، غنينا عن الحياة البائسة للعاهرات وغنينا ثنائيات تحث الأباء على التوقف عن الشرب وإطعام أطفالهم، أصبحت الفرقة لي، رحل زوجي لكن كان هناك رجال آخرين يمكنهم الغناء، حين تركني زوجي كنت أعمل في مولد، وكنت فقط أنتقي أحد الزملاء وأعلمه الأغنية ونغني معًا».
أخذت «أم محمد» أخر نفسًا من سيجارتها ونفخت دخانها بعيدًا وعادت لتنظر لضيفتها الهولندية التي بقيت مبحلقة في وجه السيدة المسنة باهتمام، كانت الحكاية شيقة وتكشف كثيرًا من معالم تلك الحقبة من التاريخ، وخبايا عالم «العوالم» المثير، وكان فضول «كارين» يقتلها لمعرفة المزيد، ما أدركته المرأة السيتينية فأطفأت سيجارتها، وعادت تستعيد ذكريات سنوات شبابها الذي مضى، لترتسم ابتسامة على شفاهها وتروي حكايتها التي اشتاقت لتفاصيلها، ليت الشباب يعود يومًا.
«في الأفراح، كانت النساء بالأعلى والرجال بالأسفل، مجموعتان منفصلتان، كنا نصعد إلى الأعلى لنرقص ونغني للعروس، قبل أن يؤخذ وجهها، هل تفهمين؟ أقصد عذريتها، ثم نذهب بالأسفل إلى الرجال لنرقص ونغني بقية الليلة حتى الساعة الثانية أو الثالثة صباحًا، طالما لازال هناك أموال، فلماذا نرحل إذا كان لايزال يوجد أموال؟ كنا نود أن نكسب المال أليس كذلك؟».
استمرت نجومية الفتاة التي اصبحت امرأة الآن في الازدهار، كانت لا تجد وقتًا للنوم، تتنقل بين الأفراح والموالد، وحدها أو كجزء من فرقة، «كنت ذكية، وكان لدي الكثير من العمل».
مرت الأيام وتغيرت معالم المهنة، أما أكثر ما تغير فكان ملابس الرقص، تلك التي دفعت «أم محمد» دفعًا نحو كتابة كلمة النهاية لمشوارها في عالم «العوالم»، كان جيلا جديدا قد بدأ يظهر على الساحة بشكل جديد لم تكن تستطيع أن تتنافس معه أو تجاريه، لتتوقف وينطفئ بريق نجمها.
«توقفت حين أصبحت تجارتنا عارية، كانت فساتيني تغطيني تمامًا، لم يكن أي جزء من جسدي عاريًا، كنا نلبس 3 أو 4 جيبات، كانت بطوننا وصدورنا نغطيها بالخرز والترتر، عندما تغير ذلك فاض بي الكيل وتوقفت، الجيل الجديد دفع جيلي جانبًا، هذا الجيل يريد العُري».
لم يمر الأمر ببساطة على المرأة التي اعتادت الرقص يوميًا وأصبح عملها يجري في عروقها كما يجري الدم مدمنة له ربما لا تستطيع التوقف، وكأعراض انسحاب المخدر لدى المدمنين سقطت «أم محمد» فريسة للمرض حين أدركت أنه لم يعد لها مكانًا في عالمها الذي أحبته، لتبقى في المستشفى لمدة عام كامل.
فكرت حينها من الأفضل أن أرفض هذا العمل بنفسي على أن يرفضني هو، لذا توقفت، كنت في عمر الخامسة والخمسين والآن أنا في الخامسة والثمانين» (ترجح الكاتبة أن عمرها كان يقارب السبعين وكان تسجيل المواليد وقت ولادتها، وخاصة في محافظات الأقاليم، غير دقيق).
دارت الحياة على «أم محمد» ولم تعد قادرة على مواجهة متطلباتها المادية بعد توقفها عن العمل، لتبدأ في بيع كل ما تملك، «ماذا كان على أن أفعل؟ لم أكن أعرف كيف أعمل كخادمة أو منظفة، سأتركها على الله ليحميني».
تركت «أم محمد» أمورها لله حينها ليحميها، ومرت السنوات واتجهت العالمة المعتزلة للتدين أكثر وأكثر حتى أصبحت تؤذن للناس في مواقيت الصلاة الخمس، كما كان يفعل والدها في الزقازيق حين كان يمتطي حماره ويلف القرية يؤذن في الناس.
أنهت «أم محمد» حكايتها واعتدلت في جلستها مبتسمة قائلة لضيفتها: «هل تعلمين لقد زرت مكة مرتين للحج، عقبالك»، قبل أن تنهض من مجلسها متابعة: «اعتذر منك ولكن حان وقت الصلاة على أن أذهب»، ورحلت «أم محمد» تاركة ورائها الهولندية لتحمل قصتها للعالم ولم تكن «كارين» لتخيب ظنها.. أبدًا.
وقد أوضحت «كارين» في ختامها لقصة «أم محمد»، في كتابها، الذي تشرته عام 1998، أن السيدة المسنة تحصل على بضعة نقود قليلة نظير تأذينها، وأنها محبوبة من الجميع، الذين يحترمونها لتدينها.