د. عبدالخالق حسين
بعد نشر مقالي الأخير الموسوم (السعودية ترفض اللاجئين لكنها تبني لهم 200 مسجد في ألمانيا)(1)، والذي أشرتُ فيه إلى (حروب الجيل الرابع Fourth Generation Warfare)، اقترح عليَّ عدد من القراء الأفاضل أن أتوسع في هذا الموضوع لأبين معناه بشكل أوضح، ومدى تأثيره على سير الأحداث الساخنة في المنطقة. ويسعدني أن استجيب لهذا الاقتراح الوجيه.
فإذا ما أردنا أن نغوص في تاريخ الحروب منذ فجر التاريخ، سنجد أن الحروب بين البشر مرت بأكثر من أربعة أجيال، إذ بدأت بمعارك بالأيدي، ثم الحجارة والعصي، مروراً بالسيوف والخناجر، والرماح والنبال... إلى مرحلة اكتشاف البارود، والبنادق، والمدافع والقنابل الحارقة... وصولاً إلى سلاح الدمار الشامل النووي والكيمياوي والجرثومي...الخ، واستخدام الفضاء والساتيلايت، والسايبر، والطائرات بدون طيار (درون) الموجهة عن بعد مستخدمة فيها أدق التكنولوجيا المتطورة مثل الـ(GPS) لتحديد الأهداف بمنتهى الدقة. ولكن ما نقصده هنا في تصنيف الحروب إلى أجيال هو التطور الذي حصل عليها في التاريخ الحديث وخاصة خلال المائة سنة الأخيرة.
ولأول مرة عرفتُ أن للحروب أجيال كان من خلال قراءتي لكتاب الباحث الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي، الموسوم (أفاق العصر الأمريكي)، والذي كتبتُ عنه مراجعة قبل عام (2)، وهو عبارة عن موسوعة لما يدور في عصر العولمة بقيادة الدولة العظمى، أمريكا. ولذلك أرى من المفيد أن أنقل ما ذكره الباحث في هذا الخصوص قائلاً:
(( تزايد الاهتمام بحروب الجيل الرابع Fourth Generation Warfare، التي لا تكون أهداف الهجوم فيها عسكرية فقط، ولكن تمتد إلى الجوانب مثل ثقافة مجتمع العدو أيضاً. وجدير بالذكر أن الجيل الأول للحروب يعكس تكتيكات حقبة البندقية ذات الماسورة الملساء، وهي تكتيكات ترتيب الجنود في أرتال وأنساق تعتمد على الكثافة العددية للجنود وكثافة النيران. أما بالنسبة للجيل الثاني للحروب فكانت التكتيكات تستند إلى النيران والحركة، حيث حلت القوة النيرانية الكثيفة محل القوة البشرية الكثيفة، والارتكاز على الخطط العملياتية. أما الجيل الثالث، فيتمثل في الحرب الخاطفة بالاعتماد على المناورة بدلاً من الاستنزاف. وبصفة عامة تبدو حروب الجيل الرابع مشتتة وليست مركزة في جبهات قتال محددة، تذوب فيها الفروق بين الحرب والسلام. ولا تكون ذات توجه معين بحيث لا يمكن التعرف على جبهات القتال ومعالمها. وتختفي في ظلها التفرقة بين "المدني" و"العسكري". ويتم القيام بالعمليات على التوازي في كل أعماق العدو، بما في ذلك ثقافة مجتمعه وليس بنيته المادية الملموسة فقط. ويتم فيها استخدام التقنية، لكون العمليات النفسية هي السائدة كسلاح عملياتي واستراتيجي، ويتم استخدام فايروسات الحاسوب لإحداث اضطراب بين المدنيين والعسكريين. ويتم التركيز على دعم الجمهور للعسكريين، تصبح الأخبار على القنوات التلفزيونية سلاحاً أقوى من الفيالق المدرعة، وبالتالي، يتحول التركيز من مقدمة العدو، أي جيوشه، إلى ساحته الخلفية، أي المجتمع. كذلك تتضمن النظرية استخدام الإرهابيين في هذه الحروب، ليكونوا جزءاً من مزيج الإرهاب والتقنية المتقدمة، وعناصر أخرى مثل الدين والأيديولوجيا، والهجوم من الداخل على ثقافة المجتمع، كعناصر تنتج صراعات من الجيل الرابع.))(جمال سند السويدي، أفاق العصر الأمريكي، ص 563-4).
وما يهمنا هنا هو التركيز على دور الإرهاب في حروب الجيل الرابع، وأن تشكيل منظمات الإرهاب ليس عفوياً، أو من تدبير شلة منحرفة من الإسلاميين، بل هناك تخطيط منسق في منتهى الدقة، استخدمت فيها أمريكا العلوم العسكرية، والدين، والتكنولوجيا، والحرب النفسية، للتقليل من النفقات العسكرية والخسائر البشرية من قبل قواتها إلى أقل ما يمكن، وإلحاق أقصى ما يمكن من الأضرار بالعدو.
فمن الآن وصاعداً، لا نتوقع من أمريكا إرسال قوات برية بالغة التكاليف إلى الدول الإسلامية التي تريد إخضاعها لإرادتها وربطها بفلكها، بل تؤسس منظمات إرهابية تستخدم فيها الإسلام بنسخته الوهابية التكفيرية المتوحشة، تغسل بها عقول الشباب المسلمين بهذه الأيديولوجية الفاشية، وبأموال السعودية وغيرها من الدول الخليجية، لتقوم بضرب الحكومات والشعوب التي على علاقة جيدة مع روسيا والصين، وترفض الخضوع الكامل لأمريكا. وهذا نتاج العبقرية الغربية التي تستخدم مبدأ (وداوني بالتي كانت هي الداء) كما قال أبو نؤاس قبل أكثر من ألف سنة. وهو نفس المبدأ الذي اكتشفه علماء الغرب في استخدام فايروسات الحصبى والجدري وشلل الأطفال وغيرها من الأمراض الفايروسية لصناعة لقاحات تنتج المناعة ضد هذه الأمراض، وبهذه الطريقة تم اجتثاث الكثير من هذه الأمراض في العالم.
وبنفس الطريقة استطاعت العبقرية الغربية صناعة منظمات إرهابية تستخدم فيها العقيدة الإسلامية لمحاربة الشعوب الإسلامية تخدم أغراضاً عديدة، أهمها تشويه سمعة الإسلام وإظهاره كأيديولوجيا معادية للإنسانية والحضارة الحديثة، وثانياً، توفر على الغرب إرسال جيوش جرارة لمحاربة هذه الدول فتحول الصراع إلى سني- شيعي لاستنزاف طاقات هذه الشعوب في حروب طائفية مدمرة، وثالثاً، ترغم الحكومات التي تشق عصا الطاعة على الغرب على جرها إلى التحالف الذي تقوده أمريكا، وفي نفس الوقت تتظاهر أمريكا بأنها تحارب الإرهاب.
فنحن نشهد الآن عودة الحرب الباردة وبنسخة جديدة وأساليب جديدة، فبدلاً من الصراع بين النظام الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والرأسمالي بقيادة أمريكا، صار الصراع حول المصالح الاقتصادية واحتلال مناطق النفوذ بين المحور الشرقي الذي يضم روسيا والصين وإيران وسوريا والعراق من جهة، والمحور الغربي بقيادة أمريكا وحلفائها في المنطقة (تركيا والسعودية وبقية الدول الخليجية) من جهة ثانية.
ولذلك نقول أنه من الغباء تصديق الادعاءات بأن غرض الغرب من الحرب في سوريا هو إقامة نظام ديمقراطي وإنقاذ الشعب السوري من بطش حكم بشار الأسد!! فأية ديمقراطية هذه التي تريد الدول الخليجية مثل السعودية إقامتها في سورية وهي التي تقطع رؤوس مواطنيها بمجرد المشاركة في تظاهرة تطالب بأبسط حقوق الانسان؟ (مثل محنة الشاب السعودي علي محمد النمر، المحكوم عليه بالاعدام)(3) لمشاركته في تظاهرة عندما كان عمره 17 سنة.
ومع الأسف الشديد أنه إذا ما طرحنا هذه المخططات وحذرنا من أغراضها، انبرى البعض من ذوي النوايا الحسنة وغير الحسنة، يتهموننا بنظرية المؤامرة، وأن السبب الحقيقي هو الإسلام، وأنه بمجرد التخلص من الإسلام ستتحول هذه البلدان إلى جنات عدن تنعم بالأمن والسلام والازدهار. بينما الواقع يؤكد أن هناك شعوباً غير إسلامية عانت وما زالت تعاني الكثير من حروب الإبادة مثل الدول الأفريقية (الكونغو، ورواندا ونايروبي، ومزمبيق و أنكولا وغيرها) وهي غير مسلمة.
وقد توصلنا في العديد من مقالاتنا الأخيرة إلى استنتاج أن المنظمات الإسلامية الإرهابية هي من نتاج أمريكا وبأموال الدول الخليجية والأيديولوجية الوهابية التكفيرية. أما تظاهر أمريكا بأنها تحارب الإرهاب، وأنها شكلت تحالفاً دولياً يضم نحو ستين دولة، فهذا لذر الرماد في العيون وتضليل الرأي العام العالمي لإخفاء دورها في دعم الإرهاب.
وقد ذكرنا مراراً أن أمريكا غير جادة في محاربة داعش في العراق وسوريا، بدليل أنها ضد أية جهة تحارب هذا التنظيم الفاشي بجدية، مثل إيران، والحشد الشعبي، وسوريا وحزب الله اللبناني. وأفضل دليل ظهر أخيراً هو عندما باشرت روسيا في المساهمة بقصف الإرهابيين في سوريا، اعترضت عليها أمريكا، واعتبرته تدخلاً يؤدي إلى اختلال التوازن بين الحكومة السورية والقوى المعارضة لها، وادعت أن المناطق التي قصفتها الطائرات الروسية كانت فيها "المعارضة المعتدلة"، وأنها قصفت المدنيين ولم تقصف المناطق التي تحتلها داعش. بينما الحقيقة تؤكد خلاف ذلك. وهذا دليل قاطع على أن أمريكا وحلفائها لا يريدون القضاء على داعش وجبهة النصرة وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. فلو تريد أمريكا حقاً القضاء على الإرهاب لاستطاعت تحقيقه بمجرد توجيه أوامرها إلى حلفائها (السعودية وقطر وتركيا) بالتوقف عن دعمه ورعايته، والسيطرة على مصادر تمويله، فينهار هذا الإرهاب خلال أيام. ولكنهم غير جادين ولذلك يبشر أوباما أن الحرب على داعش قد تستغرق خمسين سنة!!! لأنهم يحتاجونها. وها هو وزير خارجية السعودية اعلن في الأمم المتحدة وبكل صلافة وصراحة أن (السعودية تريد سوريا بدو الأسد وإلا فالحرب ستستمر)، ألا يعني هذا أن الإرهاب الذي يشن الحرب في سوريا هو من صنع السعودية؟(4)
ودليل آخر على دعم أمريكا وحليفاتها للإرهاب في سوريا والعراق، هو تخصيصها نصف مليار دولار لتدريب المعارضين السوريين"المعتدلين" لمحاربة نظام بشار الأسد، ولكن باعتراف الإدارة الأمريكية أن الوجبة الأولى من هؤلاء "المعتدلين" الذين دخلوا سوريا عن طريق تركيا بعد تدريبهم، انضموا مع كل ما عندهم من أجهزة حربية متطورة إلى داعش. وهذا يؤكد ما قلناه مراراً أن أمريكا تدعم الإرهاب بغطاء دعم المعارضين المعتدلين. كذلك تدعي أمريكا وحلفائها أن اللاجئين السوريين يفرون من سوريا خوفاً من بطش النظام السوري، بينما الحقيقة تؤكد أن الملايين من الشعب السوري فروا من المناطق التي احتلتها منظمات الإرهاب ولجأوا إلى المناطق الأكثر أمناً التي تحت سيطرة الحكومة.
وفي العراق، تحاول أمريكا فرض تشكيل وشرعنة ما يسمى بـ(الحرس الوطني) لكل محافظة، تكون قيادته بيد محافظ المحافظة، وليس بيد القائد العام للقوات المسلحة العراقية. وهذه خطوة في سلسلة خطوات أخرى من التآمر لتفتيت الشعب العراقي إلى كيانات متحاربة، والكارثة أن تقوم الحكومة الفيدرالية بدفع تكاليف تدريب قوات (الحرس الوطني) وتسلحيها، ورواتب منتسبيها. والحقيقة أن (الحرس الوطني) هو الاسم المهذب لقوات داعش التي هي القوات البعثية الصدامية، وإضفاء الشرعية عليها. وإذا ما تم لهم ذلك، لا سامح الله، فسرعان ما سنشهد اختفاء داعش، والادعاء بأن قوات الحرس الوطني المحلية "السنية"، هي التي قضت على داعش، بينما الحقيقة أنه تم تحقيق الغرض من داعش وهو تفتيت العراق وإعادة البعثيين إلى القوات المسلحة المعادية للحكومة الفيدرالية، والخطوة اللاحقة هي زحف هذه القوات الداعشية البعثية (الحرس الوطني) من المحافظات الغربية، على بغداد وتحريرها من "الصفويين المحتلين"...وإعادتها إلى "أهلها الحقيقيين". تذكروا ما رفعوه من شعارات مثل (بغداد إلنا وما ننطيها)، و"عائدون يا بغداد"، التي رفعوها في ساحات الاعتصامات.
خلاصة القول، الإرهاب هو العمود الفقري المعول عليه فيما يسمى بحروب الجيل الرابع، فبدلاً من أن ترسل أمريكا وحلفائها قوات عسكرية إلى هذه البلدان لتغيير حكوماتها، فإنها تثير فيها الصراعات الطائفية وتشكل منظمات إرهابية مثل القاعدة، ولقيطاتها (داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام)، بحجة حماية هذه الشعوب من حكوماتها الجائرة، بينما هي تدعم أشد الحكومات المستبدة جوراً وتخلفاً في المنطقة مثل السعودية وغيرها من الحكومات الخليجية القبلية.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- د.عبدالخالق حسين: السعودية ترفض اللاجئين لكنها تبني لهم 200 مسجد في ألمانيا
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=796
2- عبدالخالق حسين: قراءة في كتاب: آفاق العصر الأمريكي - السيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=695
3- Stop the beheading and crucifixion
https://secure.avaaz.org/en/stop_saudi_beheadings_loc/…
4- السعودية تريد سوريا بدون الأسد والا فالحرب ستستمر
http://www.akhbaar.org/home/2015/9/198803.html
5-- الجولة الروسية الاولى ضد داعش في سوريا (فيديو 11 دقيقة)
https://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=GazZuLDjC84