بينما مصر مشغولة بانتخاب برلمانها تطفو فوق السطح بين الحين والآخر تساؤلات حول الموقف الذي آلت إليه مفاوضات سد النهضة الجاري تنفيذه في إثيوبيا…وتظل الآمال معقودة علي استمرار النوايا الطيبة التي ترسخت بين الدول الثلاث:مصر والسودان وإثيوبيا نحو العمل علي تذليل الصعوبات والعراقيل التي تعترض إتمام المشروع بالقدر الذي يحقق آمال إثيوبيا في التنمية وإنتاج الطاقة مع الحفاظ علي المصالح المائية لكل من مصر والسودان…وأرجو مخلصا أن تدرك حكومتنا أهمية إحاطة الإعلام والرأي العام بتطور الأمور في هذه القضية أولا بأول حتي لاتترك الفراغ الخالي من الشفافية والمعلومات أرضا خصبة تمرح فيها الشائعات.
وإذا كنا نتحدث عن قضية ترتبط بأمن مصر القومي والمائي…أفتح اليوم ملفا مهما مسكوتا عنه لسنوات طويلة ويتحتم طرحه ومناقشته,بل هو يرقي لأن يكون أحد مشروعات مصر القومية في الفترة الحالية بما يتطلبه من مواجهة شجاعة ودراسات علمية جادة بغية التوصل إلي حلول واقعية عملية يمكن تنفيذها…حلول قد تكون طويلة الأجل وقد تكون باهظة التكلفة لكنها تظل لاغني عنها بالنسبة لمستقبل مصر ومسئولية تاريخية نحملها تجاه الأجيال القادمة لايمكن التنصل منها.
أفتح اليوم ملفالسد العالي وتراكم طمي النيل أمامه في بحيرة ناصر…ولست أفتح هذا الملف لأثير جدالا حول مآثر ومشاكل السد العالي لأن ذلك الجدال قديم وإثارته لن تغير من الواقع الذي نواجهه علي الأرض هذا الواقع يؤكد أن إنجاز مشروع السد الركامي المصمت لحجز وتحزين مياه الفيضان نتج عنه إيقاف سرعة تدفق مياه النيل لدي وصولها لجسم السد قبل السماح بمرورها مرة أخري-طبقا لخطط الري واحتياجات توليد الكهرباء- فأدي ذلك إلي ترسب ذرات الطمي العالقة بالمياه وتراكمها في قاع بحيرة السد وتخلفها عن عبور السد مع المياه المتدفقة خلفه إلي وادي النيل والدلتا لتروي الأرض والمصريين .
هذا الوضع نشأ منذ إتمام مشروع السد العالي عام1970 وتستمر آثاره حتي يومنا هذا-45سنة حتي الآن-تتراكم وتتفاقم ونحن نؤجل المواجهة…نؤجل إعادة محتوي الطمي إلي مياه النيل وهو العنصر الثري جدا الذي خلق عبر آلاف السنين تربة مصر السوداء علي جانبي النهر وفي الدلتا لتحول الصحراء إلي الأرض الزراعية التي أكسبت مصر اسمهاكيميت أي الأرض السوداء والتي جعلت هيرودوت يطلق مقولته الشهيرة في قديم الأزمان:مصر هبة النيل.
فقد النيل مياهه حاملة الخير الوفير للتربة المصرية,وفقد لونه البني القاتم الذي يعكس ماتحمله مياهه من إكسير شباب الأرض الزراعية, وفرح البعض وهم يرون لون مياه النيل يتحول إلي اللون الأزرق ويظهر في التصوير الفرتوجرافي ساحرا مبهجا مع أخضر الزرع وأصفر الصحراء,لكنهم لم يدروا أنهم يحتفون بمولد كارثة محققة ستنعكس آثارها السلبية علي مصر-ولو بعد مئات السنين-شاهدة علي خطيئة الإنسان عندما يتسرع ويتدخل لاعتراض المسار الأزلي لعناصر الطبيعة ولايتمهل للمواءمة معها.
نعم…ورثنا فقدان طمي النيل وزحف الشيخوخة علي التربة الزراعية والزيادة المضطردة في سرعة التدفق لمياهه ونحرها القاسي لجوانب النهر وجسوره,أما الطريف المخيف فهو أن نهر النيل الذي طالما نزل المصريون إلي مياهه للسباحة وتمتعوا بهدوئها,بات خطيرا مهلكا مستعصيا علي السباحة مبتلعا من ينزل إلي مياهه بسبب تياراته السريعة الهادرة الجارفة. أما أعظم ماورثناه ويبقي مسكوتا عنه لايؤرقنا فهو تراكم الكميات الهائلة للطمي في قاع بحيرة السد تتراكم وتتراكم سنة بعد أخري وتنتقص ببطء وإصرار ودأب من السعة التخزينية للبحيرة.
ومهما هون البعض من الأمر-مثلما دأب المسئولون علي فعله عبر أربعة عقود مضت-بادعاء أن مصر أمامها مئات السنين قبل حدوث مشاكل من السد العالي,وتظل الحقيقة المرعبة أننا نؤجل مواجهة كارثة رهيبة الأبعاد والآثار ونتركها ميراثا بائسا ننقله لأحفادنا ليتولوا هم تحمل تبعاته دون ذنب اقترفوه فيلعنوا حماقتنا!!
أتصور هول الكارثة إذا استهنا بالمشكلة,كما أبقي علي يقين أن مواجهتها والتصدي لها بالرصد والتقييم والدراسة والبحث العلمي وبلورة العلاج ووضع جدول زمني ومالي لتطبيقه هي أمر حتمي يؤهلها لأن تكون أحد مشروعات مصر القومية…إذا فعلنا ذلك يحق لنا أن نفتخر بمآثر السد العالي وأفضاله علي مصر…أما إذا لم نفعل وتركنا الكارثة تحل-ولو بعد حين- فسوف يكون السد العالي وصمة عار في جبين جيل المصريين الذي شيده.