مصر دولة شابة، فبحسب إحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، عدد الشباب دون سن 25 عاماً يتجاوز نسبة الـ50% من تعداد سكان مصر (45 مليوناً من إجمالى 88 مليوناً)، وهم بالضرورة الطاقة القادرة على الإنتاج، العمود الفقرى للاقتصاد وقاطرة التنمية والخروج من نفق التخلف والتراجع الاقتصادى، والحل الأساسى لمعضلة البطالة والتضخم وتداعياتهما.
وأظنها المعركة الأولى والكبرى التى نخوضها اليوم وغداً، والتى أورثتنا إياها نظم غاربة، بحلولها المسكنة والمرحِّلة، وقد دعمتها بوعود مرسلة لم تترجم على الأرض فى خطط وبرامج وفعل يحولها إلى واقع معيش، ولم تنتبه إلى إقامة بنية تحتية تؤسس لقيام مشروعات إنتاجية وخدمية تصنيعاً وتعديناً وزراعة، ولم تضبط بوصلة التعليم على احتياجات وتطلعات الشارع والمجتمع، تحت غطاء انضباط تشريعى يضبط العلاقات البينية بين أطياف المجتمع وبينها وبين السلطة الحاكمة وفق عقد اجتماعى سوى، ورؤية وطنية حقيقية تضبط إيقاع حركة المجتمع نحو الاستقرار والتنمية وصيانة الحريات لحساب مجتمع الكفاية والعدل والحرية.
على أن الموروث لم يقف عند حدود الحلول الورقية المفارقة للتخطيط والإمكانات، بل حمل معه منظومة «فساد» ضربت حياتنا، فى الشارع والبيت والدولاب الحكومى، وحاصر التعليم والإعلام والثقافة، وراح يغازل ويغوى منظومات التشريع والرقابة وبعض من القضاء، حتى صار خبز يومنا المسموم، وصارت قواعده حاكمة تقترب من الإدمان، نلعنه ونتعاطاه، نشن عليه حملات معلنة تسود صفحات الإصدارات وتحتل شاشات الفضائيات، بينما نسعى إليه سراً ونبرره أمام ضمائرنا التى تعرضت لجفاف حاد، بغطاء دينى وجد من يطوعه لحساب الفساد قصوراً أو توظيفاً.
وعندما طفح الكيل انفجرت إرادات الغضب على تباينها فى 25 يناير، ليلاحقها الفساد مجدداً ويحاصرها ويسعى للارتداد بها إلى ما كان قبلها بتحالفات تيارات الدين السياسى وطيف من رجال الأعمال والنظام المباركى، رغم ما يبدو من صراعاتهم الظاهرة على السطح، بينما لغم تحالفاتهم يسبح تحت الماء، لينتفض الشارع مجدداً يسترد حراكه فى 30 يونيو.
ونصبح أمام تحد ثلاثى من النظامين السابقين والقوى العظمى التى ترى مصالحها تهتز وتكاد تسقط فى المنطقة وتخشى أن تسترد مصر وعيها، فتقود المنطقة المفككة إلى خلق كيان إقليمى يزاحم تلك القوى ويسترد عافيته الاقتصادية، أسوة بما حدث فى دول جنوب شرق آسيا التى فرضت نفسها على الساحة الدولية وباتت تهدد عروش العالم الأول.
ما يحدث فى مصر الآن ليس مصادفة وليس مجرد صراع مع التنظيم الفاشى الإخوانى الدولى، فهو لا يعدو كونه واحداً من أدوات الصراع مع القوى الدولية التى ترى فى الحراك المصرى خطراً يتهددها، ما يحدث يأتى وفق تخطيط تعكف عليه أجهزة استخبارات عاتية، تعرف أمراض الشارع المصرى التى استوطنته بامتداد نصف قرن ويزيد، والفساد على قمتها، وقد هالها أن تنتبه مصر إلى المشاريع القومية رغم فاتورتها الباهظة، من شبكة الطرق وبنيتها التحتية التى تختزل الزمن لقيام المصانع والتحول إلى الإنتاج لسلع رأسمالية تبتعد عن نسق الاستهلاك واقتصاد الريع، وتصبح قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد القومى، هالها أن يكتشف الشعب المصرى قدراته على استنفار حسه الوطنى، فيندفع أمام البنوك ليجمع 61 مليار جنيه فى غضون عشرة أيام، ويكرر معجزة السد العالى فى مشروع توسعة وشق تفريعة جديدة لقناة السويس ترفع كفاءتها، وتضاعف دخلها، هالها تفكيك الضغوط اليومية، ومنها أزمة توزيع السلع الأساسية كمنظومة الخبز وضبط مسار الدعم ليصل إلى مستحقيه، والتى يرون فيه مؤشراً للمنهج العلمى العملى الواقعى الذى ينفرط معه عقد الأزمات، فيحاصر الفساد فى واحد من مستقراته الأساسية.
فكان حصار الإعلام وتفخيخه والوقيعة بينه وبين الرئيس، بل وإدارة تلك الدول لحادثة الطائرة الروسية للضغط على مصر، ولهذا حديث مقبل.
نقلا عن الوطن