غيرت العملية العسكرية الروسية الناجحة في سوريا قواعد اللعبة على لوحة الشطرنج السورية.
وقد سمحت لموسكو بإعلان نفسها من جديد لاعبا دوليا في ملعب الشرق الأوسط في ظل تراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة، وعدم جدية الدول الغربية وحلفائها الإقليمية في مكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية".
وقد كان الرهان كبيرا، وفقا للاستراتيجية، التي باركتها الولايات المتحدة، ونفذتها السعودية وتركيا وقطر، على صراع مديد يخوضه هذا التنظيم الإرهابي، لتعزيز مواقعه الاستراتيجية، التي استولى عليها، وغض النظر عن إمكان تقدمه نحو دمشق (وقد أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نادي فالداي الحواري الأخير في 24 تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى خطورة أن يكون الإرهابيون قاب قوسين أو أدنى من العاصمة السورية)، ما كان يعني تهديد وحدة أراضي سوريا وبالتالي تقسيمها.
وبعد استعراض موسكو مقدرتها العسكرية في سوريا، ولكي لا تفقد واشنطن أوراقها تماما، أو تضطر إلى المواجهة مع روسيا، اتخذت الولايات المتحدة موقفا براغماتيا مرنا في مباحثات فيينا في الـ30 من شهر تشرين الأول/أكتوبر، التي شاركت فيها 17 دولة.
ولقد قوضت المنظومة السياسية الجديدة، التي أقامتها موسكو، بتدخلها العسكري، استراتيجية التحالف المعادي للأسد، واضطرت الرياض وأنقرة إلى الموافقة، على مضض، على مشاركة إيران في المباحثات، إلى جانب دول أوروبا الرائدة والشرق الأوسط. وهرع السعوديون والأتراك لإعادة النظر في مواقفهم قبل انتهاء المهلة، وتقلص دورهم إلى الحد الأدنى وفوات القطار.
بيد أن تدخل روسيا في الصراع لا يعني حتما أفول النفوذ الأمريكي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
والعجلة، التي أعلنت بها واشنطن عن عقد المباحثات في فيينا، إنما كانت تهدف إلى الحؤول دون استثمار الروس للنتائج الميدانية المرتقبة، على لوحة الشطرنج السورية، بل والإقليمية.
ولذا، لم تعد تستبعد المرونة التكتيكية، التي أظهرها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الرئيس السوري من المرحلة الانتقالية، كما تُرك الأمر للشعب السوري، لكي يقرر شكل المسار السياسي والخطوات، التي ستلي المرحلة الانتقالية، التي يقال إن كيري حددها في فيينا بثمانية عشر شهرا، وتركيا بستة أشهر، في حين يقال إن الإيرانيين وقفوا ضد أي مرحلة انتقالية وأصروا على بقاء الأسد في السلطة.
وفي هذا السياق، تلقى محور روسيا-إيران-سوريا حافزا لصياغة حصيلة أول مرحلة من اللقاء في فيينا، حين يلتقي ممثلو القيادة السورية والمعارضة (كما هو مرجح) هذا الأسبوع في فيينا لمناقشة أبعاد الاتفاقية المقبلة.
في حين ستبقى لدى السعودية ورقة رابحة وحيدة، ستحاول لعبها حتى النهاية، وهي المطالبة بضمان عدم ترشيح الأسد نفسه بعد انقضاء المرحلة الانتقالية.
غير أن أوروبا تمارس ضغطا شديدا على الرياض، لتليين موقفها من الأزمة السورية، انطلاقا من سعي الفرنسيين والألمان الحثيث لحل أزمة اللاجئين السوريين، في أسرع وقت ممكن.
كما أن ضغطا مماثلا تمارسه موسكو على طهران للتخلي عن شخصنة موضوع الرئيس السوري، حيث أشارت الخارجية الروسية من جديد (ليس مهمًا النفي بعد ذلك) إلى أن "بقاء سلطة الأسد لا تعد مسألة مبدأ لروسيا، (...) في حين أن تغيير (النظام السوري) يعد كارثة على الصعيد الإقليمي".
وقد تلا ذلك تأكيد قائد الحرس الثوري الإيراني الميجر جنرال محمد علي جعفري أن "لا خلاف روسياً-إيرانياً على مسألة الأسد".
وعلى ما يبدو، فإن موسكو وواشنطن ستواصلان في مباحثات فيينا المقبلة محاولاتهما "لجم" اللاعبين الإقليميين، لدرء خطر إفلات القضايا الإقليمية المستعصية من أيدي اللاعبين الكبار.