مشكلة الرئيس الفلسطينى محمود عباس وربما تكون ميزته أيضاً، واقعيته الشديدة التى تجعله يلتزم سياسات جد معتدلة، يرى الكثيرون أنها جد مهادنة لا تلبى طموحات جيل جديد من الشباب الفلسطينى الغاضب يهدر الاحتلال الإسرائيلى كرامته كل يوم ويسوم شعبه كل صور الذل والهوان، يسيطر عليه اليأس والقنوط، ويعتقد أن العالم كله شارك فى خداع الشعب الفلسطينى عندما وعده بإمكانية قيام تسوية عادلة للصراع الفلسطينى الإسرائيلى تقوم على الاعتراف بحق الفلسطينيين فى إقامة دولة مستقلة تعيش إلى جوار إسرائيل، لكن هذه الآمال تحولت أخيراً إلى كومة من رمال، وذهبت الدولة الفلسطينية فى اعتقاد معظم الشباب الفلسطينى أدراج الريح، على الأقل لخمسة أعوام مقبلة إن لم تصبح هباء منثوراً بعد أن أعلن الرئيس الأمريكى أوباما أخيراً، أنه لا يعتقد بإمكانية وجود فرصة للتسوية العادلة خلال المدة المتبقية من فترة حكمه!(سبتمبر المقبل)، وربما يكون متعذراً استئناف التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن رئيس الوزراء الإسرائيلى يصر على بناء المستوطنات على أرض الضفة، وأن أقصى ما يستطيع الرئيس الأمريكى أن يفعله خلال لقائه المرتقب مع رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبوع المقبل محاولة إقناع نتنياهو بضرورة الحفاظ على حل الدولتين.
وبينما تتواصل فى الأرض المحتلة انتفاضة السكاكين التى راح ضحيتها حتى الآن 9 إسرائيليين طعنهم الفلسطينيون بالسكاكين فى الشوارع، وأكثر من مائة شاب فلسطينى قتلهم الإسرائيليون بالرصاص لمجرد الاشتباه فى أنهم يترصدون الإسرائيليين، ويتصاعد التوتر فى معظم مدن الضفة ينذر بانتفاضة فلسطينية ثالثة يمكن أن تحمل عنفاً بغير حدود، وتنتقل عمليات الصدام والقتل المتبادل من القدس الشرقية إلى مدينة الخليل، حيث يستوطن 180 أسرة من غلاة اليهود الأصوليين قلب المدينة، يسكنون إلى جوار الحرم الإبراهيمى وسط 200 ألف فلسطينى هم سكان الخليل، يعيشون ذلاً مقيماً بسبب إجراءات القمع الشديدة التى يقوم بها الجيش الإسرائيلى الذى يحتل 20% من مساحة الخليل، ويقيم نقاط المراقبة والتفتيش فى كل ناصية وشارع لحماية المستعمرة السكنية التى يسكنها غلاة اليهود المتطرفين إلى جوار الحرم الإبراهيمى، يقتسمون المسجد عنوة مع المسلمين، ويقيمون شعائرهم داخل الحرم الإبراهيمى ويعيثون فساداً فى شوارع المدينة تحت حماية الجيش الإسرائيلى، يخربون المتاجر والأسواق ليؤكدوا سطوتهم على المدينة.
وسط هذا الجو المأساوى المشحون بالغضب والعنف والكراهية المتبادلة وانعدام الأمل، وقلة اكتراث المجتمع الدولى، وخيبة الإدارة الأمريكية وفشلها فى كبح جماح حكومة الليكود التى تصر على استمرار بناء المستوطنات وتبتلع أراضى الضفة قضمة وراء قضمة، يصر الرئيس الفلسطينى محمود عباس على ضرورة عودة التهدئة، ويحذر شعبه من الذهاب إلى انتفاضة ثالثة لن تجلب سوى المزيد من الخراب والموت، ويعلن بالفم المفتوح أنه لا يملك القدرة على حماية شعبه ولا يريد خداعه، ولا يرغب فى أن يمارس الشعب الفلسطينى أياً من صور الصدام والعنف المسلح تحت شعار المقاومة، لأن الانتفاضة المسلحة سوف تعطى للإسرائيليين كل الذرائع التى ينشدونها كى يسفكوا المزيد من الدماء الفلسطينية، ويكرروا ما فعلوه فى غزة، يدمرون باقى مدن فلسطين، رام الله والخليل ونابلس وجنين وطولكرم التى تزدهر بالعمران والحياة.
لا يحب أبومازن كثيراً كلمة الانتفاضة، ويؤثر أن يسميها هبة شعبية ترفض الاحتلال وترفض العنف، ويتمنى فى قرارة نفسه لو سلكت هبة الشعب الفلسطينى الطريق نفسه الذى سلكته هبة غاندى فى مقاومة الاحتلال البريطانى للهند، كما أنه يرفض وصف الموقف الأمريكى بالتخاذل، ويحرص على الحفاظ على صلاته مع واشنطن حتى إن تكن شعرة معاوية، ويحاذر من أن يقع فى مواجهة مع الإدارة الأمريكية، ولا يزال يأمل فى أن ينجح الرئيس الأمريكى أوباما رغم كل خيباته فى الحصول من رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو على التزام إسرائيلى بالحفاظ على حل الدولتين، لأن ذلك من وجهة نظرة سوف يكون مفيداً، حتى وإن كان صعباً الوصول إلى تسوية شاملة أو العودة إلى مائدة التفاوض، وبرغم تجربته المريرة مع الإسرائيليين منذ اتفاقات أوسلو، يصر أبومازن على الاستمرار فى عمليات التنسيق الأمنى مع إسرائيل، ويعتقد أن المبرر الوحيد لتعليق اتفاقاته مع إسرائيل بعد أوسلو أن تؤكد إسرائيل أولاً عدم التزامها بهذه الاتفاقات، ولا يمانع فى الجلوس مع الإسرائيليين غداً إلى مائدة التفاوض إن قبل رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو تجميد الاستيطان باعتباره مطلباً فلسطينياً وليس شرطاً مسبقاً.
ولا يقلق أبومازن كثيراً أن تفسح خطته السياسية التى تتسم بالمهادنة الطريق واسعاً أمام حماس كى تكسب المزيد من الأنصار، خاصة من أجيال الشباب بدعوى أن المقاومة المسلحة هى الحل الوحيد والبديل الصحيح لمواجهة صلف الإسرائيليين، وأن مواقف أبومازن تعتبر نوعاً من الاستسلام يفوق المهادنة، لكن أبومازن يتساءل علناً ساخراً من حماس فى جسارة بالغة، ماذا فعلت حماس بحروبها الثلاث مع الإسرائيليين أكثر من أنها دمرت القطاع وهدمت أكثر من 80 ألف منزل وتسببت فى مقتل ما يزيد على 10 آلاف فلسطينى وجرح مئات الآلاف؟ والآن تفاوض حماس إسرائيل سراً من خلال وساطة يقوم بها رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير على هدنة طويلة الأمد، ولأن أبومازن يعرف جيداً كيف تفكر حماس كما يعرف جيداً كيف يفكر الإسرائيليون، فإنه لا يمانع غداً فى تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حماس تتولى إعداد البيت الفلسطينى لانتخابات برلمانية ورئاسية جديدة فى غضون 6 أشهر، تجرى تحت إشراف دولى وتضمن انتقال السلطة الوطنية الفلسطينية بطريقة سلسة وهادئة لمن يظفر بأغلبية أصوات الشعب الفلسطينى، وبالطبع يعرف أبومازن جيداً أن حماس لن تجرؤ على قبول مقترحاته لأن شعبيتها وسط الشعب الفلسطينى وصلت إلى الحضيض بسبب حماقة مغامراتها فى غزة.
لكن أبومازن يعرف أيضاً أن المسافات تزداد بعداً بينه وبين أجيال الشباب الفلسطينى الغاضب، الذين يخرجون لملاقاة الجنود الإسرائيليين بالحجارة فى معظم مدن الضفة، ويترصدون الإسرائيليين بسكاكين المطابخ فى الشوارع، ويأخذون الشعب الفلسطينى إلى حافة انتفاضة ثالثة، صحيح أنهم لا يكرهون أبومازن ولا يعادونه، لكنهم يتشككون فى إمكانية أن تنجح سياساته المهادنة فى إنجاز الدولة الفلسطينية خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما يعتقد أبومازن أنه يملك خطة بديلة تحقق نجاحاً مطرداً على المستوى الدولى، مكنت فلسطين من أن تكون عضواً مراقباً فى الأمم المتحدة، ورفعت العلم الفلسطينى فوق مؤسسات المنظمة الدولية فى نيويورك وجينيف، وحاصرت اليمين الإسرائيلى فى أوروبا، ونجحت فى كسب تأييد معظم البرلمانات الأوروبية، وأقنعت الرأى العام الغربى بضرورة مقاطعة البضائع الإسرائيلية التى يتم تصنيعها فى مستوطنات الضفة الغربية، والأكثر من ذلك أن أبومازن يبدو واثقاً فى قدرة خطته البديلة على هزيمة صقور الليكود وإسقاطهم.
ضمن خطة أبومازن للمستقبل القريب، وقف التنسيق الأمنى مع إسرائيل إن لم تقدم فى اجتماع أوباما مع رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبوع المقبل التزاماً واضحاً ومحدداً بحل الدولتين، وأن يستمر فى مقاضاة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية مهما تكن النتائج، وأن يذهب إلى مجلس الأمن فى أقرب فرصة متاحة، يطلب استصدار قرار أممى بوقف عمليات الاستيطان فى أرض الضفة، ويطالب بالحماية الدولية للشعب الفلسطينى من خلال قوات دولية لحفظ السلام، لأن السلطة الوطنية الفلسطينية عاجزة عن حماية شعبها، تلك هى عناصر خطة أبومازن البديلة كما شرحها فى لقاء أخير بالقاهرة، حضره ممثلون لأجهزة الإعلام المصرى، وبقدر حرص أبومازن على الحفاظ على شعرة معاوية مع الإدارة الأمريكية وتوثيق صلاته بالرأى العام الأوروبى، يحرص أبومازن أيضاً وربما قبلاً على تنسيق جهوده مع كل من مصر والسعودية والأردن، كما يحرص على ضرورة وجود غطاء عربى لجميع تحركاته السياسية، وهو جاهز دائماً لتحدى حماس ويبدى استعداده الفورى للذهاب إلى انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة فى أقرب وقت، ربما لأنه يعلم أن الشعب الفلسطينى لم يعد يثق فى سياساتها الديماجوجية التى لم تخلّف للفلسطينيين سوى الخراب والدمار، وقد يكون من العسير التنبؤ بمدى قدرة الجانبين، أبومازن وحماس، على كسب قلوب وعقول هذه الأجيال الفلسطينية الغاضبة، لكن الأمر الواضح حتى الآن أن غالبية الشعب الفلسطينى تريد أن تعطى لأبومازن المزيد من الوقت والفرصة، لعله ينجح أو يسأم أو يظهر بديل جديد أكثر نضجاً يقود الفلسطينيين إلى الطريق الصحيح.
نقلا عن الوطن